حتى لا نظلم الحسين وأتباعه

0
759

محمد علي جواد تقي

الثورات التي حملت الفكر والثقافة الى الناس، تعرضت للنقد والمراجعة والتجديد، مثل الثورة الفرنسية والثورة الروسية، وحتى الثورة الايرانية حديثاً.. ويأتي الحديث عادةً من الأصدقاء والقريبين للحركات نفسها، من باب الحرص على المكتسبات وما تم انجازه، والسبب في ذلك بسيط وواضح، إذ أن الفكر والثقافة، جهد ذهني للإنسان، وكل من برع وأبدع في انتاج أكمل منظومة ثقافية وأقربها على الصواب، يكون مفكراً لشعبه وبلده، ثم يكون رمزاً محترماً ومخلداً، سواءً في حياته أو بعد مماته.

هذه المعادلة؛ يبدو أن البعض من “القريبين” يحاول تعميمها على الحالة الشيعية، وما تضم من منظومة ثقافية وطقوس وشعائر وقيم، أو بمعنى أدق؛ جرّ الحالة الشيعية برمتها الى هذه المعادلة، بدعوى “التجديد” و”الواقعية” والابتعاد عن ما يدّعيه بـ “الماورائيات والطقوسيات”. ويبدو أن كثافة التفاعل مع الشعائر الحسينية في أيام عاشوراء وايضاً الأربعين، وحتى سائر المناسبات التي تشهد تجمهراً حاشداً وغير مفهوماً لدى البعض في البلاد الاخرى، وأخصّ بالذكر الزيارات المليونية التي تشهدها كربلاء المقدسة، هي التي دفعت بالبعض لأن يفكر في صناعة إطار ذهني خاص يقولب فيه هذا السلوك الجمعي – الشيعي، أو يوجد له مبرراً يسعى ليكون مقبولاً لديه ولدى الآخرين.

وقبل أن نحكم على الآخرين – كما يفعلون هم- في نواياهم ومقاصدهم، أرى من الجدير العودة سريعاً الى المنطلق والبداية في مسألة الشعائر الحسينية، فهي، وحسب التاريخ الموثق، حصيلة تزاوج بين الحركة الثقافية والحركة العاطفية التي مضت بخط متوازٍ في نهضة الامام الحسين، عليه السلام، وكما عبر عنها بعض المفكرين بأنها “عِبرة وعَبرة”، ولأنها كذلك نجدها متجددة كل عام، يتفاعل معها الناس، ليس في البلاد الاسلامية والشيعية، بل حتى في البلاد الغربية. فالعِبرة – بكسر العين- في صون القيم والمبادئ من التجاوز عليها والانحراف عنها. أما العَبرة – بفتح العين- فانها مفتاح القلوب، والطريق نحو كوامن النفس الانسانية، حيث الفطرة السليمة التي تأبي بشدة قتل الانسان عطشاً، كبيراً كان أم صغيراً، وانتهاك قيم، مثل الصدق والأمانة والوفاء والإيثار والتضحية وغيرها التي تجسدت في واقعة الطف. ومن ثم

يكون الطريق سالكاً لإعادة النظر في المنظومة الثقافية لدى الانسان، بما يفضي الى تغيير داخلي في الانسان نفسه، أو على الصعيد الخارجي فيتحقق تغيير اجتماعي وسياسي عظيم في بلد باكمله.

وإذن؛ فالنهضة الحسينية، ليست “فكرة” ابتكرها الإمام الحسين، عليه السلام، واستفاد من الوقت المناسب، بظهور شخصية طائشة وغير سوّية مثل “يزيد”، للإعلان عنها والتبشير بها بين المسلمين، وقد ذهب الى هذا التصور العديد من الكتاب والمفكرين المسلمين، أو أن البعض شك في الأمر، بأن الحسين، عليه السلام، ولأنه يعلم بمصيره، أراد أن يصنع حدثاً ثورياً وواقعة مأساوية للترويج لفكرة التحرر من الديكتاتورية والطغيان. بيد أن الامام الحسين، عليه السلام، ربما قرأ أفكار هؤلاء قبل اكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمن، فصرّح بأهدافه للأجيال والتاريخ، بأني “لم أخرج أشراً ولا بطراً ولامفسداً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله، آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر..”. بمعنى أن القضية مرتبطة بقيم سماوية أكثر ما هي تعود الى فكر إنساني او جهد ذهني، كما يحصل لدى المفكرين على مر العصور.

هذا الارتباط الوثيق والعضوي بين النهضة الحسينية والرسالة السماوية، هو الذي جعل أبسط الناس ممن يندفعون لإقامة الشعائر الحسينية، غير عابئ بأي فعل يقوم به، مادام أنه يحيي ذكر الإمام ونهضته. وكانت البداية في زيارة مرقده الشريف في العهود الأولى، وتحديداً في العهد العباسي، حيث يذكر لنا التاريخ أن زائرين قدموا أموالهم ثم أطراف من بدنهم، وحتى أنفسهم لزيارة مرقد الإمام الحسين، عليه السلام. ومنها ايضاً مجالس الذكر لإحياء قضية عاشوراء، وهو ما أكد عليه الأئمة الأطهار، عليهم السلام، لاسيما الامام الصادق، عليه السلام، حيث قال في حديثه لأحد المقربين وهو يسأله: “هل تجلسون وتتحدثون..”؟ ثم أثنى على ذلك الصحابي الذي أكد أنه يواظب على ذكر قضية أهل البيت، عليهم السلام، والصيغة هنا جاءت بالجمع، بمعنى أن في ذلك الزمان لم يكن الخطيب الحسيني، إنما الناس كلهم كانوا يجتمعون ويتحدثون عن واقعة عاشوراء، والكل يؤكد موقفه وقناعته وإيمانه بالنهضة الحسينية، بينما في الوقت الحاضر، اصبح لدينا خطيب يعتلي المنبر، وهناك مستمعون. وكذلك سائر الشعائر الحسينية التي ظهرت بشكل عفوي بدافع ديني بحت، ثم نظمه وقوّمه مراجع الدين مع مرور الزمن، فنراه اليوم في أشكال منظمة وطقوس خاصة بأوقات وأماكن محددة. بل حتى هذا التجديد والتنظيم في الشعائر الحسينية، منبعث من التجديد او الاجتهاد في الدين، وهي من أبرز علائم قوة ومتانة التشيع، والذي جعلها أعلى وأسمى من الناحية العقائدية على سائر المذاهب.

ومن أبرز شواهد التجديد في الشعائر الحسينية يمكننا الاشارة الى “المقتل الحسيني” للخطيب الشهيد والمبدع الشيخ عبد الزهراء الكعبي، الذي يُعد نقلة نوعية في المنبر الحسيني. كما يمكن الاشارة الى “الردات الحسينية” للمواكب الراجلة في أيام عاشوراء، وهي تتضمن عبارات تحمل مضامين فكرية وثقافية واجتماعية مستوحاة من النهضة الحسينية. كما ساد عرف اجتماعي في كربلاء وغيرها، بنصب المصابيح ذات اللون الاحمر القاني، والاعلام السوداء، وغيرها من التقاليد الخاصة أيام عاشوراء والأربعين، كل ذلك تم في عهد ظهور المدرسة الشيرازية في كربلاء المقدسة، في نهاية الخمسينات ثم عقد الستينات من القرن الماضي، وعلى يد المرجع الديني الكبير الراحل السيد ميرزا مهدي الشيرازي – توفي سنة 1960- ثم من بعده ابنه المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي – توفي سنة 2001-. وخلال فترة المهجر والابتعاد عن كربلاء المقدسة والعراق، حصل تطور آخر، وهو انتشار الحسينيات في المحيط الاقليمي ثم الدولي، فكان تأسيس “حسينية الرسول الأعظم” في الكويت، مع الحرص الواضح لسماحة الإمام الراحل على اختيار إسم هذه الحسينية في محيط اجتماعي غير شيعي، ثم تكاثرت الحسينيات في البلاد الغربية، وفي مقدمتها بريطانيا وكندا وامريكا، وحتى الأفريقية، اضافة الى الهند وباكستان.

هذا النشاط الحسيني حمل رسالة واضحة طالما حرص عليها سماحة الإمام الراحل، وما يزال يحملها سماحة المرجع الشيرازي – دام ظله- وهو أن تكون النهضة الحسينية عاملاً أساس في استنهاض العقول والضمائر، ويقظة الشعوب الاسلامية وغير الاسلامية، وهو الجواب المفحم للبعض ممن يدّعي أن الشعائر الحسينية، تحولت الى عامل “تخدير” للناس، كما لو أنهم يرددون مقولة “ماركس”: “الدين أفيون الشعوب”. وقد غاب عن هذا البعض أن النهضة الحسينية هي التي ضخت في الدين الروح والحيوية والديمومة، وربما كان “ماركس” أو غيره من المفكرين في الغرب والشرق، يتمنون للإسلام أن يكون مثل المسيحية، مجرد طقوس ظاهرية جامدة، وأبنية شاهقة وجميلة وتعاليم لا علاقة لها بواقع الانسان ومستقبله.

ولمن يريد دليلاً على أثر الحيوية لهذه الطقوس العاشورائية على واقع الانسان، لينظر الى ما آل إليه مصير نظام صدام عام 2003، بعد حرب شعواء ومريرة خاضها ضد الشعائر الحسينية، طيلة الثلاثين سنة من حكم حزب البعث في العراق. ثم لنلاحظ الصدفة أو غيرها، في تزامن انهيار هذا النظام في الفترة الفاصلة بين أيام عاشوراء وأيام الأربعين، وقد كان لأول زيارة أربعين الامام الحسين، عليه السلام، انعكاسات وتأثيرات مختلفة، فعند المحتفلين بسقوط صدام، كان الحدث يمثل تجسيداً للانتصار الكبير الذي لمسه العراقيون – والحسينيون تحديداً-، ورغم أن العراق حينها كان من دون أجهزة أمن ومخابرات وجيش، فكل شيء مفقود سوى قوات

التحالف بقيادة الجيش الامريكي، لكن الزائرين توافدوا من كل مكان صوب كربلاء، وبشكل منظم، كما لو انهم فعلوا ذلك قبل أعوام، ولم يسجل أي خرق أمني أو حادث سيئ للزائرين الذين توافدوا بالملايين وهم غير مصدقين بما يجري. أما عند المتشائمين والمتخوفين من مستقبل ما بعد صدام، فقد كان هنالك شعور سحيق بالهزيمة والخيبة غير المتوقعة من اصحابها، فكان الرد والموقف على صفحات بعض الجرائد، بالقول: “ان الحشود الهائلة والقادمة لزيارة الحسين، إنما تحمل رسالة استفزازية..”!

نعم؛ هي كذلك، لأنها استفزت من قبل، حزب البعث في العراق منذ اكتشافه المجتمع العراقي المرتبط ثقافياً ووجدانياً بالنهضة الحسينية، في أيامه الاولى لانقلابه العسكري عام 1968، وعرف قادة الحزب، ومن بينهم صدام، أن لا فائدة من شعاراتهم ودعواتهم لأن يكون الحزب هو القائد والمنظم لحياة الناس، ما دامت هنالك جذوة عاشوراء تتقد في نفوس العراقيين. وهكذا كرر نظام البعث وبشخص صدام، تجربة ابن زياد في الكوفة، بل وحادثة الطف، بنسخة جديدة، حيث جرى الترهيب والتغرير والتضليل، ثم فصل شرائح المجتمع عن الشريحة المؤمنة والرسالية والقيادة الدينية، ومن ثم شن حملة دموية ضد كل ما يمت بصلة الى الولاء الديني.

وكل منصف وباحث عن الحقيقة، يكتشف أن داء الإرهاب والتكفير والقتل على الهوية في العراق، إنما هو نتيجة للإصرار العراقي على حمل تلك الجذوة الحسينية، وليست السبب – كما يعتقد البعض- في اندفاع العراقيين وبإصرار لإقامة الشعائر الحسينية، و ربما تكون هذه دعوة لجميع الكتاب والباحثين المنصفين، لأن لا يقعوا في مطب الانقطاع عن التاريخ، أو تجاهل الخلفية التاريخية، لأن في هذه الحالة يلحقون الظلم الفادح بالعراقيين الذين قدموا تضحيات جسام طيلة العقود الماضية في هذا الطريق، ولنسمي مقاصدهم واهدافهم، بـ “حرية التعبير والمعتقد”، فهي أقرب الى الفهم والإدراك في الوقت الحاضر. وبذلك يكونوا قد كرروا الظلم الذي ألحقه وعاظ السلاطين ورواة الحديث المزيف، بالإمام الحسين، عليه السلام، وفي مقدمتهم “شريح القاضي” الذي جعل الإمام خارجاً عن إمام زمانه. ومن أجل ذلك نجد أن الامام الصادق، عليه السلام، يعلمنا لعن، ليس فقط قتلة الإمام فقط، إنما الذين ظلموه “بالأيدي والألسن”، كما جاء في الزيارة التي نقرأها أمام ضريح الإمام الحسين، عليه السلام.

فاذا حمل الإمام الحسين، عليه السلام، بإقرار واعتراف كل الباحثين المنصفين من مسلمين وغير مسلمين، مشعل الحرية والانسانية والكرامة بيده المضمخة بالدماء، فان الشعب العراقي، حمل قبساً من هذا المشعل ليحيا به في حياته كريماً أبياً مصاناً

من الظلم والطغيان والانحراف، وهذه الرسالة نراها قد انتقلت الى سائر البلاد الاسلامية، من الخليج الى لبنان وسوريا ومصر وافغانستان وباكستان والهند، بل في سائر أنحاء العالم، وربما نرى ذلك اليوم الذي تحدث فيه الغربيون وغير المسلمين عن الثقافة الحسينية ودورها في بناء الانسان والمجتمع وتحقيق السلم والتقدم، فيما يبقى البعض من الكتاب والمثقفين المسلمين يبحثون عن ثغرات وهفوات هنا وهناك لحجم هذه الثقافة الساطعة.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here