من الممكن إغلاق الطريق أمام السيارات المفخخة

0
1128

محمد علي جواد تقي

الارهاب الدموي الذي نراه يحصد يومياً الشعرات من الابرياء في العراق، يحمل رسالة تكاد تكون موحدة الى كل العراقيين، حكومة وشعباً، أنهم يجب أن يعيشوا العنف والقسوة من الصباح وحتى المساء، وطوال حياتهم. ولا مكان للسلم والهدوء والاستقرار. فعندما تمتلئ العيون بمشاهد الجنائز المحمولة يومياً الى الأكف، وقبلها المشاهد المريعة للأشلاء والدماء والمتناثرة في الشوارع، فانها تنقل إيعازات عنفوانية الى منظومة السلوك الانساني، فيقسو القلب، وتتحجر العيون وتجف الدموع، ثم تنتشر ثقافة اللا مسؤولية واللامبالاة إزاء الآخر. وهو مما يبحث عنه المخططون لعمليات التفجير اليومي في بغداد وسائر المدن العراقية.

فاذا تترك مشاهد الدم والقتل اليومي أثرها في السلوك والثقافة العراقية، بحيث يستسهل بات الكثير مسألة قتل الابرياء، فهذا يعني أن المسؤولية كبيرة وتاريخية – بما تعنيه الكلمة- للوقوف أمام هذه المحاولات المشبوهة، فاذا كانت جهات اجنبية تقف وراء هذه الانفجارات وتخطط لتنفيذ هكذا نوايا سوداء، فان المسؤولين والمعنيين في العراق، يجب أن يقفوا متفرجين على ما يحصل.

نعم؛ ربما يقول البعض أن الحكومة تتخذ اجراءاتها الامنية المتعددة، وربما لا تبوح ببعض منها، وهذا سليم وجيد، رغم الاسقاطات والفضائح في هذا المجال. لكن لنلاحظ حروباً ضروس ومعارك طاحنة تندلع ويصرّ كل من الطرفين على أنه المحق، والآخر المعتدي، فلابد من الحسم العسكري، إلا الحقائق والوقائع على الأرض تؤكد لنا خطأ هذه الرؤية، بل إنهاء القتال وإسكات أزيز الرصاص ودوي المدافع، يكون خلف طاولة المباحثات السياسية. ولعل تجربة سوريا ليست ببعيدة عنّا. بمعنى أن ملف “الأمن” الذي نطمح وندعو أن يحل محل ظاهرة الارهاب، ليس بالضرورة أن يمرّ عبر الاجراءات الامنية، من عمليات مداهمة واجتياحات عسكرية واعتقالات وغيرها.

سماحة الإمام الراحل والمرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه المعروف: “اللاعنف في الإسلام”، يؤكد بكل بساطة الى أن

تحقيق الأمن ومكافة الارهاب ليس بالتعقيد والتصعيب الذي نشهده، حتى يكاد الواحد منّا يعتقد أن تحقيق ذلك ضرباً من الخيال والوهم في العراق.. فما يحتاجه العراق ، وأي بلد اسلامي آخر، يقرأ ابناؤه القرآن الكريم ويتبعون سيرة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، هو الوقوف أمام أي ظاهرة عنف وقسوة في دوائر الدولة وأروقة الحكم. فالمعروف ان الارهاب المنظم والقتل الجماعي، ليس ظاهرة اجتماعية، إنما ظاهرة تقف خلفها دوافع سياسية واضحة، فطغيان السلطة والمال، هو الذي يتسبب في تغذية روح العنف والانتقام في النفوس، وهذا ما لاحظناه في التاريخ القديم والحديث، فبمجرد حصول هذا الطغيان، تتشكل بسرعة جماعات وتنظيمات تحمل السلاح وتمارس العنف بأشكال مختلفة لمواجهة هذا الطغيان أو الحد منه، أو لانتزاع الحقوق منه بالقوة. ويمكننا البدء بالتجربة الأولى في هذا المجال في عهد عثمان بن عفان، الذي كانت عاقبة طغيانه وتجاهله آهات وآلام الناس، أن يتعرض هو للآلام عندما تناوشته سيوف المنتقمين في الحادثة المعروفة.

وفي كتابه يستشهد سماحة الامام الراحل بسيرة الرسول الأكرم وأمير المؤمنين صلوات الله عليهم. وكيف أنهما سياسة اللاعنف والعفو والسماحة مع المجتمع وحتى مع الأعداء. ولعل واقعة فتح مكة تكون مثالاً ساطعاً للتاريخ والاجيال. كذلك فعل الامام علي عليه السلام، عندما تولّى الأمر. فمن خلال مطالعة سيرته وسياسته خلال الفترة القصيرة التي أمضاها في الحكم، يتبين أنه عليه السلام، كان يحاول إزالة ترسبات العنف والدموية و”الحالة الارهابية” من نفوس المسلمين، على خلفية الاوضاع التي عاشوها خلال الفترة الماضية.

يروى أنه عندما اُستُخلف عثمان بن عفّان، آوى إليه عمّه الحكم بن العاص وولده مروان والحارث بن الحكم ووجّه عمّاله في الأمصار وكان فيمن وجّه عمر بن سفيان بن المغيرة بن أبي العاص بن اُميّة إلى مُشكان، والحارث بن الحكم إلى المدائن، فأقام فيها مدّة يتعسّف أهلها ويسيئ معاملتهم، فوفد منهم إلى عثمان وشكوا إليه وأعلموه بسوء ما يعاملهم به وأغلظوا عليه في القول، فولّى حذيفة بن اليمان عليهم وذلك في آخر أيّامه، فلم ينصرف حذيفة بن اليمان من المدائن حتى قتل عثمان، واستخلف الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، فأقام حذيفة عليها وكتب إليه:

“بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى حذيفة بن اليمان، سلام عليكم، فإنّي ولّيتك ما كنت تليه لمن كان قبل حرف المدائن..” إلى أن يقول، عليه السلام: “وإنّي آمرك بتقوى الله وطاعته في السرّ والعلانية فاحذر عقابه في المغيب والمشهد، وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المحسن والشدّة على المعاند، وآمرك بالرفق في

اُمورك واللين والعدل في رعيتك فإنّك مسؤول عن ذلك، وانصاف المظلوم والعفو عن الناس وحسن السيرة ما استطعت فالله يجزي المحسنين”.

وما يسهّل مهمة مكافحة الارهاب، سحب البساط بهدوء من تحت أقدام المعارضة العنيفة والباحثة عن دور أكبر من حجمها في الساحة، وهذا ما يؤكد عليه سماحته في معظم مؤلفاته وأحاديثه، فالارهاب الدموي الذي نشهده في العراق تتوفر له، وبالمجان، تغطية سياسية – معارضاتية، على أن منفذي الانفجارات – على الأغلب- هم من الساخطين والناقمين على حكومة الرئيس نوري المالكي، وهي مقولة ربما لا تصدق على كثير من العمليات الارهابية التي نراها تحصد الابرياء من نساء وأطفال في مناطق مختلفة من العراق، وحسب الظاهر، لن تترك أثرها المباشر على شخصية المالكي وموقفه ونهجه في الحكم، وهو قطعاً ما لا يجهله المخططون لهذا الارهاب الدموي.

إذن؛ الحل الذي يقدمه لنا سماحة الامام الراحل، هو بعدم إعطاء المعارضين والمخالفين أي مبرر لممارسة العنف، وإن فعلوا، فانهم يكونوا لعنة التاريخ والاجيال. فهذا أمير المؤمنين عليه السلام، الذي يشهد التاريخ أنه بويع من قبل المسلمين، بما لم يُحظى به أحد من قبله، من الإجماع والتوافق من عامة المسلمين، أحجم عن الوقوف بوجه طلحة والزبير ويمنعهما من مغادرة المدينة، وهو يعلم بنيتهما وكذب ادعائهما، وصرّح لهما: بأنكما “لا تريدان العمرة، إنما تريدان الغدرة..”.

وهنا التفاتة مهمة من سماحته – قدس سره- في تصحيح الرؤية السائدة عن الحاكم الناجح، حيث يقول: “ربما يتصوّر البعض أنّ القائد العسكري حتّى يكون موفّقاً فلابدّ أن يكون عنيفاً بحيث لا تعرف الرأفة والرحمة إلى قلبه سبيلا.. ولكن هذا التصوّر ليس بصحيح، فليس العنف والبطش هما سر نجاح القائد العسكري الموفّق، بل على العكس تماماً ينبغي للقائد العسكري أن يكون ليّناً رؤوفاً مضافاً إلى لزوم كونه شجاعاً وقوياً وحكيماً، فالقائد يميل دائماً إلى الرفق واللاعنف خصوصاً مع الجنود الذين يدافعون عن ثغور البلاد الإسلامية”.

ويستشهد سماحته بالوصية الشهيرة لأمير المؤمنين عليه السلام، لعامله على مصر، مالك الأشتر حيث يقول: “ولِّ أمر جنودك أفضلهم في نفسك حلماً، وأجمعهم للعلم وحُسن السياسة وصالح الأخلاق، ممّن يبطئ عن الغضب، ويسرع إلى العذر ويراقب الضعيف ولا يُلحّ على القوي، ممّن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف، والصق بأهل العفّة والدين والسوابق الحسنة، ثمّ بأهل الشجاعة منهم، فإنّهم جُمّاع الكرم وشعبه من العزّ ودليل على حسن الظنّ بالله والإيمان به، ثمّ تفقّد من اُمورهم ما

يتفقّده الوالد من ولده، ولا يعظمنّ في نفسك شيء أعطيتهم إيّاه، ولا تحقّرن لهم لطفاً تلطفهم به، فإنّه يرفق بهم كلّ ما كان منك إليهم وإن قلّ، ولا تدعنّ تفقّد لطيف اُمورهم اتّكالا على نظرك في جسيمها…”. وهذا ما يدعونا للتساؤل عن سبب عدم ظهور جماعات معارضة تحمل السيف داخل الدولة الاسلامية في عهد أمير المؤمنين، عليه السلام..؟ ولعل في طريقة خروج طلحة والزبير، وانسلالهما من كيان المجتمع والدولة الاسلامية، وبشكل هادئ ومؤدب، وطلب الاستئذان من الامام علي، عليه السلام، ما يؤكد هذه الحقيقة، علماً أنهما أعلنا معارضتهما للطريقة التي تعامل معها عليه السلام، في عملية توزيع المناصب في الدولة. كذلك “الخوارج”، المعروفين بأصحاب الجباه السود، فقد كانوا ضمن الجيش الاسلامي – بدايةً- في حرب الفئة الباغية المتمثلة بمعاوية. بل حتى الأمويين أنفسهم، لم يتمكنوا من تشكيل معارضة مسلحة وارهابية داخل المجتمع الاسلامي، إنما سلكوا طريق الجُبن والغدر والتضليل، وفي منطقة جغرافية بعيدة عن مركز الخلافة، وهي الشام، حتى يتسنّى لهم توجيه سهامهم نحو كيان الدولة الاسلامية.

ورب سائل، أو أكثر؛ يستفهم جدوائية اللاعنف والسلم واللين في أجواء مشحونة بالعنف والدموية حتى النخاع، ومع منفذين ينبعون من محيطات اجتماعية وظروف اقتصادية تدفعه للموت مع طيب خاطر..! لكن هذا الاستسلام بحد ذاته، هو ما يريده الأصحاب الحقيقيين للسيارات المفخخة والأيدي الكبيرة التي تدفع ملايين ومليارات الدولارات للمنفذين والارهابيين في العراق. أما منهج اللاعنف الذي يدعو اليه سماحة الإمام الشيرازي، هو الذي يسد الطريق أمام السيارات المفخخة و أصحاب القلوب المريضة التي تتمنى الموت للآخرين، ولو حتى بعد حين. وإذا استبعد البعض تحقيق هذا الطموح الى أمد بعيد. فان الجدير بهم النظر الى الخلف ليرى عشر سنوات أو عقد كامل من الزمن والعراقيين يعيشون على صفيح ساخن من الرعب والارهاب والدموية، ولا من مغيث.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here