الامام علي (ع) ودور المجتمع في الدولة الرشيدة

0
793

الجميع متفقون على أن دولة الامام علي عليه السلام، تجسد الانسانية والحق وكل القيم والمبادئ السامية التي لا يختلف عليها ذو فطرة سليمة وعقل سوي.. لكنهم يختلفون في طريقة الاستفادة من هذه التجربة ومحاولة تكرارها في زماننا الحاضر، فالناس يتمنون تحقيق هكذا دولة تحقق لهم العدالة والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية، فيما نلاحظ التخوف في جانب اهل السلطة والحكم في بلادنا من هذه التجربة، فلا يجرؤ أحد على فتح ملف هذه الدولة وسط الأجواء السياسية التي نعيشها، فهم يعدونها ضرباً من “المثالية” او تجربة خاصة لظروف زمانية ومكانية خاصة ايضاً. فهل معنى هذا، أننا أمام نجم لامع بعيد بين الأرض والسماء، نتطلع لبريقه ولمعانه في الليالي الحالكة؟.

ان الدولة التي لا ظلم فيها ولا فساد إداري ولا تضليل وتغرير، ليست عبارة عن هدية تقدم إلى الناس على طبق من ذهب، او يبدأون صباحهم على وجود مؤسسات ادارية او قضائية او أمنية نزيهة وعادلة، كما كان يحصل في بلاغ الانقلابات العسكرية في بلادنا، حيث يسمع الناس عبر الراديو، ان حكومتهم او حتى نظام حكمهم أصبح من الماضي، ومنذ الساعة عليهم ان يستعدوا لمواكبة نظام حكم جديد، بزعيم ومؤسسات جديدة.

وعندما نتداول الحديث عن العلاقة التكاملية بين المجتمع والدولة في تحقيق الرشد الحقيقي لهذه الدولة، إنما نستذكر من حيث لا نشعر، المعادلة التي أرساها أمير المؤمنين عليه السلام، لدى توليه الحكم، فقد وضع حداً لحالة القطيعة بين الوعي والإرادة الجماهيرية، وبين تحقيق “الرشدية” في الدولة، وليس أدل على الفترة التي سبقته، حيث كان الوعي والإرادة في إجازة، فعاث الحكام في بلاد الإسلام فساداً، بل ونخروا في كيان الإسلام، وكادوا ان يصنعوا ما يشبه “العجل الحنيذ” الذي يلبي رغبات الناس.

لذا نجد الامام عليه السلام، ينبه الناس الذي تدافعوا على بيعته بالحقيقة: “ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزته التقوى عن تقحم الشبهات، ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيكم صلى الله عليه وآله، والذي بعثه بالحق لتبلبلنّ بلبلة، ولتغربلن غربلة ولتساطنّ سوط القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرن سابقون كانوا سبقوا”.

فمن الذي يستفيد من الرشوة والمحاباة للحصول على الوظيفة والامتيازات المادية بالدرجة الاولى؟، انهم اصحاب المصالح والمطامع، والذين “لما يثبت الايمان في قلوبهم”، فالخير الذي يبحث عنه الجميع، ينبع من الجميع، ولا يأتي من الفضاء الخارجي!، فاذا كانوا مسؤولون عن النجاح فهم مسؤولون ايضاً باجمعهم عن الفشل، وهذا تحديداً الدرس الاول الذي يعطيه الامام عليه السلام، لأبناء مجتمعه آنذاك، وللأجيال القادمة، “.. اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم”.

واذا نقرأ عن مطالبته المشددة لولاته في الأمصار، بالعدل وإنصاف الناس والأمانة والصدق، فإنها رسالة واضحة إلى الناس بان يواكبوا مسيرة الحق ويساعدوا في إشاعة قيم الدين والأخلاق في المجتمع، فقد كان رد فعل الامام عليه السلام، على ذلك الحاكم بسبب جلوسه على مائدة مشحونة بالأطعمة والأشربة بما يفتقده سائر الناس، إنما كانت بسبب عمل قام احد إفراد المجتمع، بمحاولة استمالته والحصول على الحظوة في الجهاز الحاكم.

من هنا نجد التفاتة الإمام عليه السلام، نحو الغالبية العظمى القادرة على صنع التغيير والتأثير على القرار، فيشدد على الانتباه إليها ومراعاتها، ففي مطلع رسالته الشهيرة إلى صاحبه المقرّب، مالك الأشتر النخعي، حين ولاه مصر، “.. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً عند العطاء، وأبطأ عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة..”. وربما يكون ذلك الذي بسط المائدة أمام والي (محافظ) الإمام عليه السلام، من أبرز وجوه الخاصة في مجتمع ذلك الزمان.

حتى فيما يتعلق بتطبيق القوانين الحكومية التي هي من الامور الروتينية، كما نراها اليوم، فان سلامة التطبيق ونجاح القوانين في المجتمع، رهين بتفاعل هذا المجتمع وتجاوبه، علماً إن المثل الذي نورده يعود إلى عهد الامام عليه السلام، حيث كل ما يصدر إلى الناس إنما هو قانون مستقى من السماء وصادر عن انسان معصوم، مع ذلك يوصي جباة الزكاة (الضرائب اليوم) في الكوفة بان “يا عبد الله انطلق وعليك بتقوى الله وحده لا شريك له، ولا تؤثرن دنياك على آخرتك، وكن حافظاً لما ائتمنتك عليه راعياً لحق الله فيه حتى تأتي نادي بني فلان فإذا قدمت فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بسكينة ووقار حتى تقوم بينهم وتسلم عليهم، ثم قل لهم: يا عباد الله أرسلني إليكم ولي الله لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدونه إلى وليه؟، فإن قال لك قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلا خيراً..” والحديث الذي يرويه الشيخ الكليني، طويل يتضمن دروساً في العلاقة التكاملية بين المسؤول والمواطن في جميع بقاع العالم الاسلامي. وهذا ما حدى بالامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- لأن يهتف بعظمة الامام علي عليه السلام، في كتابه “السبيل إلى إنهاض المسلمين”، عندما يفند مقولة البعض بان هذه السياسة لن تدفع الناس للالتزام بالقوانين وما تطالب به الدولة، لأن “إيمانهم هو الذي يبعثهم على إعطاء المال كما نشاهد الآن بعض الناس يعطون أموالهم لمراجع التقليد لان إيمانهم يبعثهم على ذلك، بدون جبر ولا إكراه..”.

وهذا بحاجة إلى أرضية نفسية لدى الانسان، الفرد والمجتمع، بحيث من الطهارة والنقاء والسمو ما تؤهلها لتلقي الخير الحق ونبذ الشر والباطل، وهو ما كان يسعى اليه الامام عليه السلام، في خطبه المعروفة في “نهج البلاغة” واحاديثه الجانبية مع اصحابه وعامة الناس، بمطالبتهم بتقوى الله والتزام القيم الأخلاقية والانسانية، لأن “لا يحمل الناس على الحق، إلا من ورعهم عن الباطل..”.

هنا تحديداً تكمن بوصلة النجاح السياسي لأي نظام حكم، لأنه يكتسب عوامله وعناصر حياته من جذور المجتمع، وكلما كانت نسبة الصلاح في هذه الجذور كبيرة، كانت فرص النجاح في متانة النظام السياسي ونجاحه في تقديم الثمرة الطيبة اكبر، وليس أدلّ على ما نذهب اليه، عدم وجود معارضة حقيقية للنظام السياسي والإداري لأمير المؤمنين عليه السلام، إنما كانت هنالك خلافات شخصية على منصب سياسي كما حصل مع طلحة والزبير، أو حول تصورات ذهنية معينة، كما حصل مع شريحة الخوارج، وإلا فان جميع المسلمين آنذاك كانوا يرفلون بالحياة الرغيدة، بمن فيهم الخوارج، الذين هم بالحقيقة جزء من مجتمع ذلك الزمان، ففيهم المرأة والطفل والشاب والشيخ الكبير، جميع هؤلاء تنعموا بالحياة الكريمة في ظل حكومة الامام، عليه السلام، حيث قدم لهم كل ما من شأنه تغيير الحالة النفسية من التشاؤم والانهزامية واليأس من المستقبل، إلى حالة التكامل والتكافل والنمو.

من هنا نقول: ان قصر حياة الامام علي عليه السلام، لا يجب ان يفهم بأي شكل من الاشكال بقصر تجربته الفريدة والعظيمة في الإدارة والحكم، فاذا كان ذكره خالداً، يلهج به الناس في جميع انحاء العالم، لاسيما في المناسبات، فان نهجه وتجربته هي ايضاً خالدة ونابضة بالإمكان تكرارها والاستفادة منها في كل زمان ومكان.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here