في مولد الإمام أمير المؤمنين قراءة من أجل واقع جديد

0
1523

موقع الامام الشيرازي
قد يكون البحث في حياة الإمام أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب عليه السلام، ودراسة شخصيته الإبداعية، هو من نوع السهل الممتنع، على اصطلاح أهل الأدب، فالسهل في هذا البحث هو في مساحته الواسعة، التي تلامس جميع ضروب المعرفة الإنسانية، وعلومها وثقافاتها، في جوانب الفكر والإبداع، والسلوك والعمل، فيسهل بذلك على الباحث الدارس، تحصيل المادة البحثية، في الكم المتوفر من المراجع والمصادر، التي ولجت الكتابة في العنوان والموضوع، وتعاطت الاهتمام بدراسة شخصيته، سواء داخل المنظومة الفكرية الإسلامية أو خارجها.

أما الصعب أو الممتنع فيه، فهو في تحدّي الذات، لما يتقرر اختياره وما يستثنى، ضمن نطاق البحث ومجاله، وامتداداته الأفقية، وعمقه العمودي، لجهة الخوض في بحر العلوم، التي تنتهي إلى منتج الإمام عليه السلام وموروثه ومدركاته، من فقه وعقيدة، دراية ورواية، في العقل والنقل، وصولاً إلى حقول المعرفة وفروع العلوم، في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ والفلسفة، فضلاً عن آداب العربية وعلومها من نحو وبلاغة وصرف، وما يتعدى ذلك إلى العلوم الصرفة.

إن الانتقاء من أعمال الإمام عليه السلام وأيامه وسلوكياته، سيكون ممتنعاً فعلاً، في استحالة الاختيار بين جوانب الشخصية الواسعة، بدءاً بالجهاد الذي تفرد به، الذي لولا سيفه فيه لما قام الإسلام، ثم في الحكم والأحكام، وفي القضاء، ثم في جوانب الرأي والمنهج العقلي، والسلوك والأخلاق. وإن تصديق ذلك هو فيما قاله عبد الله بن عباس: (لو ان الشجر أقلام والبحر مداد، والإنس والجن كتاب وحساب، لما أحصوا فضائل أمير المؤمنين)، وفي قول الشافعي: (كيف تعد فضائل رجل أسر أولياؤه مناقبه خوفاً، وكتمها أعداؤه حقداً، ومع ذلك شاع منها ما ملأ الخافقين). ولا عجب في ذلك، وقد قام الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بصناعة شخصية أمير المؤمنين عليه السلام، وحرص على تقديمها للمجتمع الإسلامي بل للإنسانية جمعاء، بشكل يجسد العقيدة الإسلامية وشريعتها بكامل أبعادها.

ومن هنا، فإنه حري بالعقلاء من أي دين أو مذهب أو فكر دراسة الشخصية العلوية وما يترتب على ذلك من فهم معمق لهذه الوديعة المحمّدية، وما يتبعها من إلزام في السلوك الفردي والمجتمعي، والأداء السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني، وفي كافة المرتكزات الاستراتيجية للدولة ومؤسساتها، وبالتالي علينا بناء كل حياتنا على أساس المعيارية التي تمثلها هذه الشخصية، وإسقاطاتها على الجوانب الأخلاقية والتربوية والمهنية والتنفيذية، وإفراغها على مستويات الفرد والمجتمع والدولة.

من الأسباب الرئيسة للحاجة الماسة لدراسة شخصية أمير المؤمنين عليه السلام واستيعابها وتفريغها على الواقع المعاصر المعاش، هو اختلاف الفهم والإدراك المعاصر للمعتقدات الدينية، التي باتت تشكل لدى البعض، أدوات تبرير العنف والانتقام، فضلاً عن مقدمات الفساد المستشري، في مختلف مفاصل الحياة، فبدلاً من أن تكون هذه المعتقدات وخاصة العقدية منها، والتي تلامس السلوك الفردي والجمعي، عوامل متقدمة للحل في الأزمات المعاصرة، أصبحت – أحياناً – تشكل تبريرات جاهزة للتجرؤ على المحرمات، وبذا فهي قد أضحت طرفاً في المشكلة، بدلاً من مما يفترض فيها أن تكون طرفاً أساساً في الحل.

إن الخلل الكبير في هذه الظاهرة، هو في سوء فهم هذه المعتقدات واستيعابها، وفي اختلاطها بين الحقيقي وبين الموضوع والملتبس فيها، في ظل اختلاف الاجتهادات، وتباين الآراء والتقييم، كل ذلك على مرأى ومسمع من عامة الناس. والنتيجة هي فقدان الأمن والأمان في المجتمعات الإسلامية، فضلاً عن استشراء الفساد، وتضخم المفسدين، الذين أصبح من اليسير أن اكتشافهم، وهم في مواقع المسؤولية العليا في الدولة، أو في مواقع الوجاهة الاجتماعية، فضلاً عن مواقع المسؤولية في المنظومة السياسية، وحتى المسؤولية في المنظومة الدينية، وواجهاتها السياسية الاجتماعية. وعليه فإن النموذج الذي يجسد الإسلام الصحيح، وعقيدته ومنهجه السليمة، أصبح لزاماً أن يدرس بشكل واعي، وأن يعمم بلغة معاصرة، وهو المتمثل بتراث أمير المؤمنين عليه السلام، ومتبنياته الفكرية والمنهجية والعقدية، والذي لابد من تفريغه على الواقع المعاصر، بكامل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي جوانب إدارة الدولة، والأطر الاستراتيجية فيها.

إن الدساتير والقوانين، لا يمكنها تفادي الثغرات الخطيرة، التي تولدها النهايات السائبة فيها، والتي يختلف على تفسيرها، وفق المصالح الذاتية، التي تسمح بالاجتهادات المختلفة، مما يولد حالة من الفراغ القانوني والعرفي، فضلاً عن أن هذه الدساتير والقوانين، لا يمكن تضمينها، للقيم الأخلاقية والسلوكية ومعاير الأنسنة فيها، كونها عناوين عامة وقواعد كلية لا أكثر، عليه فإن الحاجة قائمة لمعيار قيمي إنساني يكون كفيلاً بأن يضع الفرد والمجتمع، ويضع المسؤول في الدولة، ومن يتولى الوظيفة العامة، في السكة الصحيحة. فبات من الضروري بمكان، دراسة الأداة التي يمكن الرجوع إليها، لتكوين الفهم الصحيح، للعقائد والمتبنيات الدينية، وخاصة ذات الصفة الاجتهادية، وبالرجوع إلى الأوامر المتضمنة في الكتاب والسنة، يتبين أن المنهج والسلوك المجسد للإسلام الحق بكافة تفاصيله، هو منهج الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، لكونه قد سلك المحاور جميعاً في الحياة، التي تغطي كافة حاجات الفرد والجماعة، من المنظومة القيمية والسلوكية، وكأنه قد اُدّخر لهذه الدالة الوظيفية.

إن الرواسب العقلية القديمة، وثقافة الانبهار، وطبيعة العقل العربي، قد حرمت التراث العربي الإسلامي، من تشكيل الصورة الحقيقية لهذه الشخصية الإسلامية الرائدة، فالصورة الراسخة في الأذهان هي صورة المقاتل العنيف، الذي يحمل ذا الفقار ويضرب الناس، بدلاً من رسم صورته الحقة، حيث كان أمير المؤمنين، فرداً في الإيمان والتوحيد، وفي الولاء والانتماء المطلق، للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ومنهجه. وكان الإمام إبتسامة على شفاه المحتاجين والبؤساء والضعفاء، وانتصاراً للمظلومين والمنكسرين، وعوناً للمرأة الضعيفة، وكان يقود العالم الإسلامي برمته، – كأعظم بلدان العالم – بكل كفاءة واقتدار، في إدارة سياسة الدولة، في الجوانب الاستراتيجية، في السياسة والاقتصاد، وفي الضمان الاجتماعي، والتكافل والرعاية والاجتماعية المتحضرة، وفي إرساء الأمن “القومي والوطني”، وفي متابعة أعباء الأمن الداخلي.

وهو مع كل هذا الانشغال الوظيفي، وبكل غرابة، نجده ملتصقاً بالناس وهمومهم، ويلوم نفسه أن ينشغل عن أبسطهم وأضعفهم، في أقصى بلاد حكمه وأقطارها المترامية، ويتابع عماله بحزم، وينتقيهم بعناية فائقة، ليكونوا رؤوفين بالرعية، عطوفين على الضعيف والمحتاج، وإلى صف المظلوم، حتى يسترد حقه. إن هذه القيم والأسس، في إدارة الدولة وسياساتها، وفي النشاط المجتمعي والوظيفة العامة، حرية بدراسة أبعاد الشخصية المؤلفة لها، وتفريغ معالمها على الواقع المعاصر، بكل ما يحمله من هوان، وتشوّه خلقي وعضوي، يطال مساحات واسعة في وعاء الدولة ومكوناتها، والمتولين للمسؤولية فيها.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here