من ثقافة الاختلاف.. تسكين الغضب وضبط النفس

0
794

محمد علي جواد تقي
ذكرنا في مقال سابق أن “الاختلاف” كمفهوم وممارسة، يمثل إحدى سنن الله تعالى في الكون وفي عالم الخِلقة. فكما هنالك اختلاف الليل والنهار، والخير والشر، والذكر والانثى وغيرها كثير، فان الاختلاف بالضرورة يكون سائداً بين بني البشر، في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم، لكن المسألة بحاجة الى ضوابط وقوانين أرسى دعائمها الاسلام وفي طليعتها “الاخلاق” كمنظومة مفاهيمية تدخل في صميم التركيبة الاجتماعية.
وبما ان “الاختلاف” يعني بأمور حياتية وممارسة يومية لدى بني البشر، فكان لابد من ضوابط عملية، تجعل من هذا المفهوم وسيلة للبناء والتقدم، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “اختلاف أمتي رحمة”، وهذه اشارة واضحة الى الجانب الايجابي من الاختلاف المؤدي الى التنوع والتعدد والقبول بالآخر، وهذا لن يتحقق إلا بكبح جماح حالة هي الاخرى مغروزة في نفس الانسان، وهي “الغضب”.
ومن الواضح، أن الغضب، من جملة ردود الفعل النفسية لدى الانسان، فهنالك مواقف وظروف معينة تجعل الانسان في حالة الغضب والتعصّب والخروج عن حالة الاتزان وضبط النفس. فاذا كان الاختلاف حالة طبيعية بين بني البشر، فان الغضب ايضاً حالة طبيعية في الانسان الفرد، لذا لم نجد نفي مطلق في السيرة المطهرة للمعصومين، عليهم السلام، لهذه الحالة، لان الاختلاف والتقاطع الموجب للغضب، ربما يكون حول قضية جوهرية ومحورية، مثل الاختلاف بين الحق والباطل، او الاختلاف بين الاسلام الذي يستقي جذوره من أهل البيت والقرآن الكريم، وبين الذي يعود الى افكار شخصية او مصالح فئوية. هنا يكون الغضب في محله، لانه “غضب في الله”، وليس لمصلحة شخصية.
وامامنا جملة من الاحاديث والمواقف التاريخية التي من شأنها ان تكون مشاعلاً مضيئة تجعلنا في حالة الاتزان وضبط النفس من اجل القضايا الكبرى. فهذا أمير المؤمنين، عليه السلام، في معركة الخندق الشهيرة وقصته مع عمر بن ود العامري، الذي غلبه في تلك المبارزة الشهيرة وطرحه أرضاً، ولما جلس على صدره وأراد ان يحتزّ رأسه، ضمن تقليد معروف آنذاك عند العرب حال الغلبة النهائية، فجأة نهض عنه وذهب مسافة ثم عاد واحتزّ رأسه، وكان هذا المشهد المثير والغريب جعل المسلمين يتسائلون عن السبب، وعرفوا أن الامام، عليه السلام تعرّض لإساءة من عمر بن ود، فاذا كان يحتز رأسه في هذه اللحظة، كان يختلط الغضب والانفعال من تلك الاساءة، مع مهمته المقدسة وهي نصرة الاسلام. بمعنى أنه فضّل وقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
ومثل هذه الدروس والعبر، كثيرة عن المعصومين، عليهم السلام، مع اعدائهم من الحكام الظلمة، وايضاً مع المعارضين لهم في الوسط الاجتماعي والسياسي. ولعل مواقف اللين وضبط النفس مع أعداء الدين والفضيلة والانسانية، التي سطرها الرسول الأكرم، ومن بعده أمير المؤمنين وسائر الأئمة الاطهار، عليهم السلام، تكون دروساً لأن نتعلم كبح جماح الغضب وردود الفعل فيما بين ابناء البلد الاسلامي الواحد، أو بين ابناء المجتمع الاسلامي الواحد، بل حتى الجماعة والمؤسسة والتيار الذي يعمل يتبنى الفكر الاسلامي والمفاهيم الاخلاقية والقيم الدينية.
ربما البعض يتصور انه من خلال إطلاق رد الفعل السريع والغاضب أزاء موقف او حديث او أي قضية اخرى، يثبت جدراته وقوته امام الطرف المقابل، حتى وإن كان اقرب المقربين، لكن رسول الله، صلى الله عليه وآله، يقدم لنا مفهوماً مغايراً عن “القوة”، فقد صادف ان مرّ على قوم “يتشايلون حجراً.. فقال ما هذا..؟. قالوا نختبر أشدنا وأقوانا. فقال: ألا اخبركم بأشدكم وأقواكم؟ قالوا بلى.. فقال، صلى الله عليه وآله: أشدكم وأقواكم الذي اذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، واذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق، واذا ملك لم يتعاط ما ليس له بحق”. وقد ربطت السيرة المطهرة بين مقدار الغضب لله ، وبين الايمان الحقيقي، فقد قال، صلى الله عليه وآله: “الغضب يفسد الايمان كما يفسد الخل العسل”.
فاذا كان دعوى الجميع في اوساطنا الاسلامية، هي الايمان بالله، كخط عريض في مسيرة العمل الثقافي والفكري والاجتماعي لمعظم الجماعات الاسلامية، فان “الغضب” بالحقيقة يمثل الفيروس الذي يهدد الخلايا الدقيقة للمنظومة المفاهيمية – الاسلامية برمتها. فرب موقف غاضب ومتسرّع أزاء شخص ما او قضية ما، أعقبت حسرة وندامة طويلة، وربما يكون التعويض عنه صعب او مستحيل، والسبب في ذلك هو أن الغضب والسخط والتعصّب، يجعل العقل في إجازة.. فحالة الانفعال تناقض حالة التروّي وضبط النفس، وبالنتيجة؛ التعقّل، فصاحب هذه الحالة، لن يفكر أبعد من أرنبة انفه، ولا يتطلع إلا لفترة الساعة التي يعيشها او الموقف الذي فيه، ولا شأن له بالبعد المستقبلي والآثار المترتبة ومصائر الآخرين، وهذا ما نلاحظه عندما تكون القضية متعلقة بمنصب سياسي او مكانة اجتماعية او مصلحة فئوية و حزبية، فان الغضب سيد الموقف!
ومن هنا، نلاحظ الامام المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي يدرج هذه الحالة، ضمن سلسلة عوامل تخلف المسلمين عن ركب الحضارة والتقدم في كتابه “الصياغة الجديدة”، وكما سلط الضوء غير مرة على هذه المسألة الحساسة، في احاديثه ومؤلفاته وحتى مواقفه، بل كان خلوه من حالة الغضب والانفعال – مهما كانت الاسباب والظروف- من السمات الاساس في شخصيته الاجتماعية والدينية، حتى عُرف بانه من نوادر زمانه بضبط النفس والاتزان وكبح جماح الغضب والانفعال رغم قساوة الظروف والتحديات الخطيرة التي واجهها طيلة حياته.
وربما هو يقتبس هذه الخصلة والسمة، من أسوته الحسنة، وهم أهل البيت، عليهم السلام، الذين مروا بمواقف شديدة وقاسية، إلا انها كانت تلين وتتصاغر عند اقدامهم، فلا يعبأوا بها، وبذلك اثبتوا حكمتهم وبعد نظرهم وحرصهم على مصير الأمة. ولعل من المواقف المضيئة التي يحتذى بها، موقف الامام الصادق، عليه السلام، مع بني عمومته من ابناء الحسن، عليه السلام، عندما اقتنعوا بجدوائية التحالف مع بني العباس للقضاء على الدولة الأموية، وفي القصة المعروفة، واجتماع رموز العباسيين مع رموز البيت العلوي من ابناء الحسن، شقّ على هؤلاء عدم حضور من يمثل “ابناء الحسين” عليه السلام، وهو الامام الصادق، عليه السلام، فكان من احدهم، أن تفوه بكلام قاسٍ على الامام، علماً انه من الناحية المنطقية، الأولى بأخذ ثأر جده من الأمويين، وابناء الحسن، عليه السلام، هم من نسل الحسن المثنى الذي بقي على قيد الحياة بعد واقعة الطف..
فما كان موقف الإمام الصادق، عليه السلام؟
لم يظهر أحقيته بالثأر وصدارة الاجتماعات وادارة التخطيط للانقلاب على الدولة الأموية، كما لم يبين سوء تصرف الطرف المقابل ويعنفه على ذلك. إنما ذهب الى داره وطرق عليه الباب، وما أن خرج ذلك الشخص، حتى واجه الامام، عليه السلام، وهو يعتذر له ويخفف عنه غضبه وانفعاله..!
هكذا حافظ الامام الصادق، وسائر الأئمة الاطهار، عليهم السلام، على تماسك جبهة الحق، وانتصر للفضيلة والاخلاق في مقابل البناء الذي اراد تشييده الآخر على المكر والخديعة وسفك الدماء وانتهاك الحرمات، فكان الزوال والاضمحلال لهذا البناء، بينما البناء الشامخ لمدرسة أهل البيت ، عليهم السلام، التي تجعل الانسان يتطلع دائماً الى مستقبله ومستقبل شعبه وأمته، كما يفكر في حاضره ويومه.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here