الشعائر الحسينية واستمرارية عملية الانتاج الثقافي

0
871

محمد علي جواد تقي

في قراءتنا لبعض الثوار الذين تمكنوا من قلب الاوضاع السياسية في بلادهم، أنهم جاؤوا بأفكار جاهزة بقوالب ثابتة الى شعوبهم، تحمل سمة الصنمية – في أغلب الحالات- بل حتى بلغت ببعضها، أن تكون مصداق القول: “نفذ ثم ناقش”. فالعلاقة هنا، بين الايديولوجية وبين الناس، هي علاقة فوقية واستعلائية.

أما نهضة الامام الحسين، عليه السلام، فانها لم تأت بجديد في الفكر والعقيدة، (الايديولوجيا)، لأن الدين موجود بين الناس، فالجميع كان يؤدي الفرائض الخمس، حتى قتلة الامام الحسين عليه السلام، بل والحاكم الظالم، كان يؤم الناس في صلاة الجماعة. كما كان الناس يؤدون سائر الفرائض الدينية، ويلتزمون ببعض الاحكام الاسلامية، لكن بشكل صوري وسطحي.

وفي تلك البرهة الزمنية، وتحديداً على أرض كربلاء، كان هنالك حوالي (77) أو اكثر من اصحاب الامام الحسين عليه السلام، هم الوحيدون الذين كانوا على درجة عالية وسامية من الوعي الديني، وهو الذي جعلهم يزهدون بكل شيء في الحياة، من مال وزوجة وأملاك وأموال، ويفضلون الموت وتقطع أبدانهم إرباً إرباً، في معركة غير متكافئة وظالمة، للدفاع عن الامام، عليه السلام، مع علمهم أنه في الأثر لا محالة.

السؤال هنا: هل كان الامام الحسين، عليه السلام، يبني على أن الأمة الاسلامية برمتها تكتفي بوجود هذه الثلّة المؤمنة في مستواها الراقي من الوعي والثقافة العميقتين، وليبقى سائر المسلمون على سطحية تفكيرهم وضحالة ثقافتهم الدينية، ثم ليذهبوا جميعاً الى الجحيم؟!.

بالقطع واليقين، لم تكن هذه من أهداف ورسالة الامام من نهضته المدوية والعظيمة، واذا لاحظنا بدقة الكلمات والخطب التي صدح بها الامام لأهل الكوفة الذين جاؤوا لقتاله، نجد الصورة واضحة جداً، حيث بدأ الامام بعملية التحفيز الثقافي وإثارة دفائن العقول ومحاولة تذكيرهم بانهم في الطريق المؤدي الى الخسارة المادية والمعنوية، وهو ما حصل تماماً، حتى مع أمراء الجيش. وأنصع دليل على ذلك، تخلّي الحر بن

يزيد الرياحي، عن منصبه العسكري وامتيازاته في جيش بن سعد، وانضمامه الى معسكر الإمام، لأنه بلغ خلال الساعات التي تخللتها خطب الإمام وتحذيراته، الى ذلك المستوى الراقي الذي بلغه سائر الاصحاب في أوقات سابقة.

مسيرة تعميق الوعي والثقافة، استمرت مع مسيرة السبايا، وهي مفارقة عظيمة وتجربة رائدة وباهرة يقدمها لنا أهل البيت عليهم السلام، في التصدي للشأن الثقافي، فهم تحت القيود والسلاسل والتنكيل والحرب النفسية، كانوا يمارسون التثقيف الديني. لنلاحظ الامام زين العابدين عليه السلام، يرد على ذلك الشامي الذي تناوله بالسب والشتم، وهو لا يعرفه، فلم يزجره أو يبين انه سليل الأسرة النبوية وعليه احترامه، إنما فتح أمامه نافذة القرآن الكريم، وسأله عن الآيات القرآنية التي يقرأها ويحفظها، ونزلت في حق أهل البيت، عليهم السلام، لذا نجد التحول السريع (180) درجة، لذلك الرجل، من انسان معادي وناصبي، الى انسان موالي ومحب.

واذا ننظر الى الشعائر الحسينية اليوم، نراها امتداداً لتلك المسيرة التوعوية والتثقيفية المنطلقة من النهضة الحسينية. ولن أغالي إن قلت: كل مفردة من مفردات الشعائر الحسينية اليوم، هي بالحقيقة دروس في التثقيف الذاتي والتوعية الدينية. ربما لا نجد ما يشبه الاجواء التعليمية والاكاديمية، من صفوف ومختبرات وكادر تدريسي، واوقات محددة للدخول والخروج، وغير ذلك، بيد أننا نجد الحالة التي تقربنا الى الصورة التي كانت عليه مشاهد النهضة الحسينية، منذ انطلاقاتها الاولى، ومروراً بمراحل السبي والتنكيل التي تعرض لها اهل البيت، عليهم السلام، واستمراراً بالدور التثقيفي والتوعوي الذي نهض به سائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، بل وحتى يومنا هذا، حيث ثبت بما لا مجال للشك، أن الامام الحجة المنتظر – عجل الله فرجه- يواصل أداء هذا الدور، بين فترة وأخرى.

وعليه، فان الجلوس تحت منبر الخطيب الحسيني والاستماع الى موضوعاته الثقافية المتعلقة بالنهضة الحسينية، والبكاء على المصاب الأليم، أو عملية إلحاق الألم والأذى بالجسد، من خلال اللطم على الصدور، او بضرب السلاسل الحديدية على الظهور، أو التطبير، وكذلك فنون أخرى في الشعائر الحسينية، مثل “التشبيه”، وفي مرحلة لاحقة، صار عندنا “مسرح حسيني”، وحتى عملية توزيع الماء والطعام.

كل من هذه المفردات لها رسالة واضحة ودقيقة للانسان، فالبكاء يفتح باباً واسعاً، للانسان وتسهل له عملية المراجعة الذاتية، في لحظة يكون في غاية اللين والعاطفة، وإلا يتعذر ان يسمح الانسان لنفسه بمحاسبتها وجلدها خلال ايام السنة، نظراً للظروف القاسية التي تترك أثرها في نفسه، فيكون تبعاً لها قاسياً. كذلك عملية إيصال

الألم الى الجسد، فهي تعبير واضح عن الظلم والاضطهاد الذي مارسه، وما يزال، الحكام الديكتاتوريين في بلادنا الاسلامية.

وربما لا نجانب الحقيقة، اذا قلنا، إن إحدى اسباب تحول شعيرة “التطبير” الى مسألة مثيرة وحساسة لدى البعض، أنها تحولت الى خير رسالة للتحدي السياسي المصحوب بالحالة الحماسية في أشد حالاتها، وإلا ما الذي يضير أن يلحق جماعة من الناس، وهم محدودون بالطبع، الأذى والألم بأنفسهم، خلال ساعات معدودة كل عام، ثم يذهبون الى بيوتهم؟، أما عن المآخذ التي تتحدث عن تشويه صورة ذلك البلد في العالم. فان في هذا العالم الكثير الكثير من المشاهد المثيرة التي تحصل في مهرجانات وطنية واجتماعية، ولا أحد يحتج عليها او يبدي ملاحظة عليها.

كذلك اذا لاحظنا “التشابيه”، التي تجسد للناس مشاهد الظلم الذي لحق بأهل البيت عليهم السلام، نجد أنها في غاية الدقة في الاستجابة لحاجة نفسية في الانسان الذي يريد التضامن والتفاعل مع قضية أو حادث معين. ربما يعكف الأدباء والكتاب والخطباء على تصوير المشهد، بلسانهم وقلمهم وأدبهم، مهما كان رفيعاً وراقياً، لكن تبقى حدود التأثير، وكذلك الاستجابة ضعيفة، او ليست بالسرعة التي نتوقعها، كما لو شاهدنا مسيرة السبايا التي تقوم بإعدادها وإجرائها بعض المواكب الحسينية في كربلاء المقدسة، حيث نجد جنود عمر بن سعد، ثم السبايا من نساء واطفال الى جانب رجل، يشبه على أنه الامام زين العابدين عليه السلام طبعاً، مع الاحتفاظ بقداسة وحرمة الشخصيات الدينية، وعدم كشف الوجه وغير ذلك.

وايضاً عملية الإرواء والإطعام، فانها تعبر بكل وضوح الى العطاء السخي الذي كان يتصف به الامام الحسين عليه السلام، وهو في أرض كربلاء – حادثة الحر مثالاً- هذا أولاً: كما تعبر عن ثقافة حب الخير والبذل للآخرين دون مقابل، ثانياً. هذه المعطيات، تقدم لنا مفاهيم انسانية مضيئة، قد يبذل الكثير من المفكرين والمصلحين سنوات من عمرهم على تكريسها ونشرها في مجتمعاتهم، وقد لا يحققون النجاح في ذلك، بينما نلاحظ أيام قلائل في السنة تنتشر وتترسخ هذه المفاهيم بين الناس، ويحرصون على تكرارها كل عام، ويحرصون على عدم التخلف عنها.

نعم؛ ربما لا تبين وتتبلور هذه المفاهيم في زحمة المواكب الحسينية وبين حشود الزائرين، لاسيما في أربعين الامام الحسين عليه السلام، وهو المطب الذي يقع فيه البعض ممن يتصور أن ما يراه من قوافل المشاة من كل مكان الى كربلاء المقدسة، أو الذين يؤدون سائر الشعائر الحسينية، أنهم فئة دون المستوى الثقافي، وانهم يقومون بهذه الممارسات بدافع العاطفة والانفعال والانجرار مع التيار.. ولو أجرينا مسحاً ثقافياً وفكرياً لمن يقال أنهم يقفون على التل أمام الشعائر الحسينية، وهم مثقفون

وواعون، نجد أن ما يحمله هؤلاء لم ينتج للمجتمع والأمة، ما انتجته الثقافة الحسينية، من إصلاح ذاتي وتغيير اجتماعي شامل، وبناء حضاري، هذا اذا تجاوزنا الحديث عن المغالطات والتناقضات والاسقاطات في الفكر والثقافة التي شهدتها العديد من التيارات والتوجهات التي حاولت أن تكون بديلاً ثقافياً عن النهضة الحسينية.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here