الحج.. للذات والمجتمع

0
798

موقع الامام الشيرازي

 

في (أشهر معلومات)، يتواصل الأذان في الناس بالحج، يأتون من كل فج عميق، إلى البيت الحرام، يقفون جنباً إلى جنب، الأبيض والأسود، العربي والأعجمي، الغني والفقير، الحاكم والمحكوم، الرجل والمرأة، الكبير والصغير، تلبية لنداء التوحيد، وأداء لمناسك تعبدية، تتماهى مع رحلة نبي الله إبراهيم الخليل(عليه السلام)، التي قطعها عبر أرض أور وبابل والشام والجزيرة، متخطياً السهول والهضاب والوديان، ليحل في نهاية المطاف في مكة المكرمة، التي خصها الله(عزوجل) بأن كانت مقراً لبيته الحرام، الذي كان وما زال وسيبقى، محلاً لالتقاء المسلمين، من الذين منّ الله عليهم باستطاعة إلى الحج سبيلاً، قاصدين البيت العتيق، قال(عزوجل): ((إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ)).

وفي جملة ما أوصى به، وهو يُبيِّن أهمية الحج، وأنه رمز بقاء الإسلام، قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): (.. اللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ فَلَا يَخْلُو مِنْكُمْ مَا بَقِيتُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا – أي أنّ البلاء الإلهي سيشملكم -، وأَدْنَى مَا يَرْجِعُ بِهِ مَنْ أَمَّهُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا سَلَفَ..). وقال(عليه السلام) مُذكراً أهمية هذه الشعيرة الإلهية المقدسة: (.. جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى لِلْإِسْلَامِ عَلَماً..). ومما جاء في خطبة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام): (.. فجعل اللّه الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس، ونماء في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين).

أرقى تجمع إنساني

إن الإنسان بفطرته مدنيّ الطبع، تميل نفسه إلى الاجتماعات والتآلف مع الآخرين، والركون إلى الجماعة والاختلاط بها، وهذا هو سبب تكون المدنية وإنشاء المدن والمجتمعات الكبيرة. وهذا الميل يعبر عن غريزة فطرية موجودة في الإنسان

الساعي سعياً دائباً لإشباع غرائزه، فإن ميله نحو التوطّن ضمن مجموعة من الناس، والعيش معهم عبارة عن إشباع لغريزته هذه، وتكوين الأسرة أيضاً صورة أخرى من صور إشباع الغريزة الاجتماعية، وغريزة الاجتماع تؤمن للإنسان حسن الألفة والاختلاط البشري ومنافع أخرى سوف نتعرض لها.

يقول الإمام الشيرازي(قده): (أكدت الشريعة على الاجتماع، وخير نموذج لذلك هو شعائر الحج، وصلاة الجماعة، والروايات التي تبين استحباب السفر مع الآخرين، وغيرها من الموارد التي تحث على الاجتماع أو الاشتراك مع الجماعة المؤمنة. وليس هذا مقتصراً على الإنسان فحسب، بل يبدو واضحاً في السلوك الجمعي لدى الحيوانات أيضاً، إذ إن الهجرة الجماعيّة للطيور مثلاً، مسألة تمثل نموذجاً عالي الانسجام من نماذج الفعالية الجمعية، ونجد الأمر نفسه في تجمعات النمل والنحل وغيرها، وكل ذلك برهان عقلي على أهمية الحياة الاجتماعية وضرورتها. إذن، مسألة الاجتماع من أساسيات بقاء ودوام المخلوقات وعلى رأسها الإنسان. والحج يمثل أرقى وأشرف تجمع للإنسانية لما يتضمنه من فوائد ومنافع روحية، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة ((ويذكروا اسم الله))، وهذا الذكر ينمّي في الإنسان روح التعاون والمحبة).

وقفة مع الذات

يقول الإمام الشيرازي(قده): (للحج منافع أخروية، وهي وجوه التقرب إلى الله تعالى، بما يمثل عبودية الإنسان من قول وفعل، وعمل الحج بما له من مناسك تتضمن أنواع العبادات، من التوجه إلى الله(عزّوجل)، وترك لذائذ الحياة، وشواغل العيش، والسعي إليه(عزوجل)، بتحمل المشاق والطواف حول بيته، والصلاة، والتضحية، والإنفاق، والصيام، وغير ذلك، والحج بما فيه من مناسك يمثل دورة كاملة في مسيرة التوحيد ونفي الشريك). من هنا، فإن الحج وقفة يختلي بها الإنسان مع نفسه ليحاورها ويكاشفها ويعاتبها، والحج مواجهة يستكشف بها الحاج موقعه، هل ما زال في ساحة الإيمان أم إنه قد استدرج من حيث يعلم أو لا يعلم إلى خارجها؟! وهل ما زال في مراتب الإيمان الدنيـا، حيث استوقفت صعوده صغائر ذنوبه وفلتات أفعاله؟! والحج رحلة ينطلق الحاج فيها – بعد ندم وتوبة – لمحاسبة الذات إزاء مسؤوليتها، فيما عليها للأهل، والجيران، والأصدقاء، والأمة، والإنسانية جمعاء، ليتساءل: هل الناس منه في راحة؟! وهل هو من خير الناس، من حيث إنه مِنْ أنفعهم لهم؟! وهل يتقرب من خلالهم إلى رب الخلائق، فيراهم إما أخاً في الدين أو نظيراً في الخلق؟! وهل هو ما قبل الحج وبعده سيان؟! يقول الإمام الرضا(ع): (إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله(عزوجل) وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف العبد، تائباً مما مضى،

مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال، وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذات، شاخصاً في الحر والبرد، ثابتاً على ذلك، دائماً مع الخضوع والاستكانة والتذلل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها ومن في البر والبحر، ممن يحج وممن لم يحج، من بين تاجر وجالب وبائع ومشتر وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه، ونقل أخبار الأئمة إلى كل صقع وناحية).

مؤتمر عالمي

إن الحج ليس عملاً عبادياً فحسب، بل يعد أحد أهم الشعائر الإلهية، التي أنعم الله بها على الأمة الإسلامية خاصة، دون غيرها من الأمم. والحج مؤتمر عالمي للمسلمين، يبعث في نفوس المسلمين روح الإيمان والتقوى، ونبذ التفرقة، وترسيخ الوحدة، وتوطيد فضيلة التعاون على البر والتقوى، وهو ملتقى إيماني يشعر من خلاله المسلمون بقوتهم وعزتهم. والحج قبل أن يكون مكاناً يجتمع فيه المؤمنون القادمون من شتى بلاد الأرض ليتعارفوا فيما بينهم، وليتقاربوا بمحبة بعضهم بعضاً، على أخوة الإسلام وصالح الأعمال، فإن الحج فريضة يتعاهد من خلالها المؤمنون على اجتناب الإثم والبغي والعدوان، وأن دم المسلم على المسلم حرام، وعرضه حرام، وماله حرام، وليبحثوا عن سبل الارتقاء بواقع الأمة في مجالات الإيمان والعلم والفضيلة والرفاه والحياة، ومد يد العون لاستنقاذها من الجور والقهر، وتحشيد الإمكانيات لانتشال شبابها من وحل التعصب والتكفير والكراهية.

يقول الإمام الشيرازي(قده): (الحج أقوى مظهر إسلامي، ومن خلاله يوصل المسلمون أفكارهم وآراءهم حول الكون والحياة، وكل ما يتعلق بعقيدتهم إلى كل بقاع العالم. والحج من أعظم الوسائل التي يستطيع من خلالها المسلمون إظهار القوة والعزة والمنعة، والعودة إلى الإسلام والإيمان الحقيقي، الذي هو الطريق الوحيد الذي يوصل المسلمين إلى منابع القوة والهيبة، ويجعلهم أمة عزيزة كريمة، تستطيع مواجهة الأعداء، وإفشال مؤامراتهم وكيدهم، فالحج عبادة تعبّئ المسلم، وترفده وتزيده قوة، فلا يخشى أية قوة مهما تجبرت وطغت، وكيف يخشى المسلم تلك القوى وهو مؤمن بأنها أمام قوة الله تعالى ليست شيئاً مذكوراً).

haj

منافع الحج الدنيوية

يقول الإمام الشيرازي(قده): منافع الحج الدنيوية، وهي التي تتقدم بها حياة الإنسان الاجتماعية، ويصفو بها العيش، وترفع بها الحوائج المتنوعة، وتكمل بها النواقص

المختلفة، ومن تلك المنافع ما يتعلق بالتجارة والسياسة والولاية والتدبير والتعاضدات الاجتماعية. فإذا اجتمعت أقوام وشعوب المسلمين من مختلف بقاع الأرض وأصقاعها، على ما بينهم من اختلاف في الأنساب والألوان والسنن والآداب، ثم تعارفوا بينهم على كلمة واحدة هي كلمة الحق، وإله واحد هو الله سبحانه، ووجهة واحدة، وهي الكعبة المشرفة. حينئذ يكون أداء شعائر الحج موصلاً إلى حالة اتحاد المشاعر والأحاسيس الدينية، وبذلك تتحد القلوب، وتتوافق الأقوال والأفعال، ويعيش الكل حالة الأمة الواحدة، ويحملون همّاً واحداً، بعد أن تخمد النعرات، وتذوب الاختلافات في بحر من الانسجام والاجتماع.

ويقول الإمام الشيرازي (قده) ايضا: هناك روايات تؤكد، أن الهدف من الحج هو ذكر الله أولاً، ثم التأسي برسول الله(ص)، فحينما يشاهد الناس آثاره(ص) ومشاهده الكريمة، فإنهم يستذكرون ويعيشون أيام الله، وبزوغ أنوار الرسالة الخاتمة، ويتذكرون أتعاب الرسول العظيم(ص) وتضحياته وجهوده من أجل تثبيت أسسها وأركانها، أما التبادل الثقافي، والتعرف على مشاكل المسلمين، وإيجاد الحلول المناسبة لها، فهي من ضروريات الاهتمام بأمور المسلمين، وهي من أهم مايحققه الحج.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here