اللاعنف ودوره في مكافحة الجهل والتخلف

0
1170

محمد علي جواد تقي

أوصى رسول الله، صلى الله عليه وآله، أمير المؤمنين بثلاث: “من لم تكن فيه لم يقم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله عزوجل، وخُلُق يداري به الناس، وحلم يرد به جهل الجاهل”.

وربما من التقديرات الالهية أن أحظى بوصية و نصيحة من صديق عزيز جداً، أراها تجسيداً لوصية النبي الأكرم في الواقع الذي نعيشه، فقد نصحني بأن لا استمر في النقاش مع شخص جاهل الى حد إفحامه، “لان في هذه الحالة سيرد عليك بالسباب”!!.لا نخوض في الاسباب النفسية لسلوك كهذا، بيد ان المهم تسليط المزيد من الضوء على خلفيات العنف والدموية في الواقع العراقي، بل وفي عموم البلاد الاسلامية، حيث نسمع يومياً اخبار اراقة الدماء لاطفال ونساء وشيوخ في من افغانستان شرقاً مروراً بالعراق والخليج و سوريا ولبنان وحتى المغرب العربي وافريقيا، وهناك من يتحدث عن الفقر وآخر يتحدث عن سياسات الحكام والممارسات القمعية، وغيرها كأسباب أوجدت ظاهرة العنف والارهاب في العالم، ونضيف اليها؛ عامل الغفلة وغياب الوعي والثقافة الصحيحة التي يسميها القرآن الكريم بـ “الجهل”.

الجاهل ضعيف أمام المال والسلاح

من المعروف أن الجهل مما يثير مشاعر الضعف في نفس الانسان، وهذا بدوره يجعله أمام هواجس عدّة في حياته، كما هو شأن الأميّ الذي تسبب له عدم القدرة على القراءة، مشاكل جمّة وربما تعرضه للمهالك، لكنه بدلاً من أن يتوجه لحل المشكلة الحقيقية، لما يمر به من أزمة نفسية وفراغ معرفي وثقافي، نراه يلجأ فوراً الى الحلول السريعة لحل مشكلة الضعف بتوفير عوامل القوة، سواءً كانت بالمال او السلاح او الجاه؛ اجتماعياً او سياسياً او عسكرياً، حتى وإن كان الطريق الى هذه القوة محفوفاً بالعنف والقسوة، بحيث يعرض حياته وحياة الآخرين الى الخطر.

والسبب في ذلك بكل بساطة؛ أن العلم والاخلاق بحاجة الى طريق طويل مع مستلزمات وشروط وظروف معينة، ربما يستصعبها البعض ويتجاهلها البعض الآخر لاسباب عديدة، فبغض النظر عن دوافع باذلي المال والسلاح و من بيدهم عوامل القوة، وهم عينهم رعاة الارهاب والمشاهد الدموية، فاننا نلاحظ البعض من “اصحاب المشكلة” يرى في المال والمنصب والسلاح وغيرها، ما يغطي على واقعه النفسي المأزوم بالفراغ المعنوي والمعرفي.

هذه المعضلة النفسية التي تشد بخناقها على المجتمعات الاسلامية وتمثل احد اسباب تصاعد موجة الارهاب والعنف والدموية في كل مكان، بحاجة الى حملة توعية وتثقيف واسعة تتسم بالمرونة والرفق واللين وكل مفردات اللاعنف، تستلهم الأداء من مشاهد رائعة تعود الى عهد النبي الأكرم وأمير المؤمنين والأئمة من بعده، عليهم السلام، لنجد كيف تعاملوا مع حالة اللاوعي واللاثقافة – إن جاز التعبير- في صفوف المجتمع آنذاك، علماً أن هذه الحالة تمثل إحدى السهام الموجهة صوبهم، من شأنها ان تثير استفزاز وغضب أي شخص آخر الى حد الرد بالمثل وأقسى منه.

مثال واحد من مئات الأمثلة نسوقها، من حياة الامام السجاد، عليه السلام، عندما صادفه رجل في الطريق وفاجأه بالسؤال:

هل تعرف الصلاة؟!

يقول الراوي، هممت بالهجوم عليه، فنهاه الامام، عليه السلام، وقال له:

مهلاً؛ فان العلماء هم الحلماء الرحماء.

ثم واصل مع الرجل الحديث، ويجيب على اسئلته عن كيفية الصلاة، ولما أنتهى الامام منه، نهض من عنده وهو يقول، كما يقول سائر من اتبع هذا السلوك مع الأئمة الاطهار: “الله أعلم حيث يجعل رسالته”.

وربما يكون موقف الامام السجاد نفسه، أمض وأشد من هذا، وهو مقيد بالسلاسل في قافلة الأسر بعد واقعة الطف، وقد وصلوا الكوفة، فبادره احدهم بالتنكيل والتشفّي به وبأسرته، فما كان من الامام، إلا أن سأل الرجل، عن مدى اطلاعه بالقرآن الكريم، فأجاب: بلى؛ فقال له: هل قرأت الآية الكريمة: {إنما يريد الله ان يذهب عنكم الرجز اهل البيت ويطهركم تطهيرا}، فقال: قرأتها، فقال له الامام: نحن أهل البيت يا شيخ.

ولو راجعنا الظروف الاجتماعية التي واكبها الأئمة الاطهار، ومن قبلهم النبي الأكرم، لوجدناها تتّسم بالتسطيح في الوعي او غيابه كلية في كثير من الحالات، وغفلة عن حقائق الدين وما بينه القرآن الكريم من سنن إلهية ومعادلات حضارية، وكيفية نشوء الأمم وتقدمها ورقيها؟ وكيف تتصدع وتندثر؟ هذه الغفلة والجهل في الامة آنذاك، هو الذي سبب في تعرض الأئمة لاقسى الظروف والتحديات، بل واضطروا الأئمة لبذل المزيد من الجهود والدماء بغية هزّ الضمائر واستثارة العقول وحثها للتوجه نحو قيم الدين والاخلاق والانسانية.

اللاعنف مهمة محفوفة بالمخاطر

عندما نتحدث عن اللاعنف في إزالة غشاوة الجهل واستثارة العقول والهمم نحو التقدم، لا يعني أن يكون القائمين على المشروع في أمان وطمأنينة، لأن المستفيدين من حالة الجهل والغفلة والتسطيح في الوعي، سيكونوا أول وآخر المتضررين من نجاح هذا المشروع، ولذا فانهم لن يسمحوا بتحرك مشاريع كهذه في الساحة، وهذا ما جعل علماء دين ومراجع وخطباء يواجهون شتّى صنوف الأذى والصعوبات لأداء رسالتهم النهضوية، من خلال الكتابة والخطابة والتأسيس لعشرات المؤسسات والجمعيات الناشطة في مجالات اجتماعية واقتصادية وثقافية.

بموازاة هؤلاء، نلاحظ – وما نزال- جماعات وتيارات تعمل بقوة في الساحة وفي نفس المجال، وبشعارات طويلة وعريضة ولكن؛ ليس بقوة المنطق والحكمة، وإنما بقوة المال والتضليل واحياناً السلاح ايضاً.

ولعل من ابرز الامثلة الجديرة في هذا السياق؛ سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- الذي تعرض لمرات عديدة في حياته الى محاولات قتل معنوي، لا لشيء سوى إصراره على نهج اللاعنف وقوة المنطق في نشر الوعي والثقافة والفكر الاصيل في المجتمع والامة جمعاء، وبما أن “الشمس لا يمكن حجبها بغربال” كما يقول جبران خليل جبران، فان الحقائق كلها ظهرت بعد وفاته، واتضح مدى صواب ما ذهب اليه وتبناه، والفوائد الجمّة التي انسابت على المجتمع، من انتشار للوعي في المجالات كافة، الى جانب الدين، الوعي بالسياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون وغيرها، ورسم خارطة طريق ثقافية تغير واقع المجتمع وتجعله يقظاً وحذراً وصانعاً لحاضره وغده، وعلى نفس الطريق مضى ابنه الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي، وآخرون ماضون على طريق ذات الشوكة.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here