ثقافة الأمل من عوامل النصر والتقدم

0
30648

محمد علي جواد تقي

لو سلطنا بعض الضوء على الدوافع الحقيقية والكامنة في نفوس آلاف الشباب المتطوع الى جبهات القتال ضد عناصر “داعش”، لوجدنا أن ابرزها بصيص الأمل الذي لمحوه في الأفق للخلاص من هذه الفتنة الجديدة والمحنة التي ابتلي بها الشعب العراقي، لذا نرى المتطوعون، يخلفون ورائهم زوجاتهم وأطفالهم ومساكنهم وأعمالهم ودراستهم وكل متعلقاتهم الدنيوية، وحتى ما كانوا يعانون منه بسبب ضعف الأداء الحكومي والقصور الكبير في تقديم الافضل خلال السنوات الماضية، لانهم وصلوا الى قناعة، بان التحدي هذه المرة يتعلق بالأرض والعرض والمقدسات، فما فائدة الحياة المرفهة اذا وصل الارهابيون الى ابواب البيوت وفعلوا ما يفعل اللصوص وعديمي الانسانية والضمير.
ان تحدي الضغوط الخارجية او خوض المواجهات مع أعداء الشعب والامة، تمثل مفردات ثقافية تعتمد عليها عديد البلدان التي شهدت التقدم والازدهار، وحتى حالة التنافس لمزيد من التقدم في مجالات الصناعة الزراعة والتعليم، تشكل دافعاً آخر للإنسان لان يقدم الاكثر ويبذل المزيد من طاقاته، بل ويسعى لاستخراج ما عنده من مواهب وقدرات يصبّها في بوتقة الوطن او الامة التي يعيش في كنفها، ليكون من عوامل النصر والتقدم، وعندما تنطلق الاحتفالات بتحقيق شيء ما، يشعر انه كان جزءاً مؤثراً، وله الفضل – بنسبة معينة- في الحدث الجديد، سواءً كان بتحقيق الاستقلال السياسي، كما كان في العقود الماضية من القرن الماضي، او تحقيق النصر على العدو الخارجي بعد حرب ضروس، او التوصل الى انتصار سياسي كالذي حصل في ايران.
إذن؛ فلا تقدم ولا تطور في الحياة، ولا ازدهار ولا رفاهية، من دون الأمل بتحقيق هذه الاهداف العظيمة، فاذا كان الامر كذلك، كيف تكون النتيجة بوجود “ثقافة اليأس” والاحباط وتكريس الشعور بالضِعة…؟! وهذا يكون أمضى وأمر، عندما نقارن بالآخرين، فما أن نسمع بتطور حاصل في بلد ما، او لدى شعب ما، يشرع البضع – ربما بحسن نيّة- بالتقريع وإلقاء اللوم على سوء الطالع والحظ العاثر “الذي منعنا من أن نكون مثل أولئك، ونحظى بالسعادة والحبور…”! وللمثال التقريبي وحسب، ما شهدته ايران من أجواء احتفالية بعد التوصل الى اتفاق مع الغرب، وتحديداً مع الولايات المتحدة حول المشروع النووي، والذي يتضمن من جملة بنوده، رفع كامل للعقوبات الاقتصادية المفروضة مند سنوات. ومع قطع النظر عن تفاصيل الحدث الايراني، وخلفياته وأبعاده الحقيقية، فان الجدير بنا البحث عن فرص للأمل بالنجاة مما نحن فيه، والنظر في حجم الامكانية في ذلك، وإن كانت ضعيفة، فالمسؤولية تكون في تقوية هذه الامكانية في داخل النفوس، فالانسان، اينما كان، وفي أي أرض عاش، سواءً كان افريقياً او امريكياً او من سكان الغابات والجبال، فانه يحمل في نفسه صفات الانسان الباحث دائماً عن الحقيقة والتكامل والخير، وهذا يكون عندما يمتلك الامل بالحياة. لاحظوا ببساطة؛ بعض الدول المتحضرة، كيف تتعامل مع المرضى الميئوس من شفائهم، مثل مرضى السرطان والسل وغيرهم، فهل يمنحوهم الأمل بالحياة حتى اللحظات الاخيرة، ولا ينصبون لهم المناحة والعزاء…!
قرأت منذ سنوات خبراً من اميركا، ان مريضاً طلب في الساعات الاخيرة من أيام حياته، ان ينقل من المستشفى الى مبنى وزارة الدفاع الاميركية، ليزور المكان الذي تنطلق من القرارات العسكرية التي تقرر مصير عديد بلاد العالم، وربما كانت أمنية الرجل، وهو يسمع طيلة حياته بمكانة وأهمية “البنتاغون”، وكان له ذلك، حيث وافقت الوزارة على الطلب، وتمت له الزيارة، وهو على سرير الموت، والتقى في البنتاغون عدد من الضباط الكبار والموظفين الذين أثنوا على معنوياته وشكروه على الزيارة، كما لو انه اراد ان يشكرهم على جهودهم في السيطرة على العالم…!
ان مهمة نشر ثقافة الامل في النفوس، لا تقتصر على وسائل الاعلام الحكومية والمسؤولين في الدولة، إنما هي مسؤولية المثقفين بالدرجة الاولى، من اعلاميين وكتاب وأدباء واساتذة جامعات وعلماء دين، وهم بذلك سيكونوا أحد أهم عوامل النصر والتقدم، سواءً على الصعيد العسكري او السياسي او الاقتصادي او العلمي. وهذا تحديداً ما فعلته النخب المثقفة في الدول المنتصرة، فقد أبدعوا وكتبوا وألفوا في العزيمة والإرادة والاهداف السامية، وكل ما يتعلق بالكرامة الانسانية التي يجب صونها من أي تجاوز مهما كلف الثمن، ومهما أريقت حولها الدماء. وهكذا كان الامر في الهند والصين وروسيا وجنوب افريقيا وأمثالها في العالم.
ثم علينا أن نتذكر دائماً، الارضية الصالحة لنمو الأمل في النفوس في العراق، متمثلة في القيم الدينية والاخلاقية والارث التاريخي الكبير، والقدوات المضيئة والناجحة. كل ذلك وغيره من شأنه ان يُحيي الأمل بالتغيير نحو الاحسن، فاذا كانت الدول تصنع الثقافة والوعي من لاشيء، إنما من الشعارات وبعض الافكار، فان العراق يحظى بثقافة تمتد بجذورها الى عمق الحضارة الاسلامية، وهذه بحد ذاتها تمثل فرصة أخرى في هذا المجال، لنعرف بأن الاجيال الماضية تمكنت من خلال هذه الثقافة تحقيق انتصارات باهرة والحصول على مكاسب كبيرة في ظروف قاسية وصعبة. وخير من يشير الى هذه الحقيقة، سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- الذي نعيش هذه الايام ذكرى رحيله المؤلم، حيث يقول في كتابه “السبيل الى إنهاض المسلمين”: “… فالثقافة الاصيلة تجعل الامة تسير سيراً متميزاً في الحياة، فكرياً، وعملياً، ونظرياً، وسلوكياً، والمسلمين في الصدر الاول تحلّوا بهذه الثقافة فحرروا نصف الكرة الارضية بعد اقل من ثلث قرن من بداية جهادهم المقدس. والمسلمون في العراق امتلكوا قسماً من هذه الثقافة بين الاعوام 1918 و1920، وكان عدد نفوسهم لا يزيد على الاربعة ملايين نسمة، وبقيادة المرجع الديني الامام الراحل الشيخ محمد تقي الشيرازي، من الانتصار على اعظم امبراطورية في العالم…”.
وفي معرض توضيحه لطبيعة هذه الثقافة، يستشهد سماحته بموقف الامام الشيرازي – قدس سره- مع القائد البريطاني في حينه الجنرال “بيرسي كوكس”، وكيف تجاهله بكل شجاعة في داره لدى زيارة الاخير له، وذلك في بدايات الوجود البريطاني في العراق، بينما رحّب بمدير بلدية كربلاء آنذاك، وهو عراقي ومسلم، وعندما سأله الاخير عن السبب، قال: “انت رجل مسلم تتشهد الشهادتين، ولذا احترمتك، رغم ان طريقتك خاطئة في القبول بهذا المنصب، ولكن كوكس، رجل كافر اجنبي ومستعمر، ولو كنت أعلم بمجيئه لما أذنت له بالدخول الى داري والجلوس على على بساطي، فكيف ارحب به…”؟!
ويعلق سماحة الامام الراحل على “هذه الثقافة الرسالية الصلبة التي رسخها القائد في الشعب العراقي، وبهذه الثقافة استطاعوا دحر الاعداء…”.
ونحن اليوم في العراق، بحاجة الى هكذا مواقف تاريخية تعبر عن ثقافة أصيلة يلمسها العدو، وكل المتربصين شراً بالعراق، سواءً كانوا في قالب التنظيمات الارهابية والتكفيرية مثل “داعش” وغيرها، او من الاطراف السياسية والدوائر المخابراتية واصحاب الرساميل والمصالح التجارية وغيرهم، وفي نفس الوقت بحاجة الى تكريس هذه الثقافة في الجيل الجديد، بل وبين عامة الشعب، والكف نهائياً عن ترديد المقولات القديمة والممجوجة من قبيل: “لن يصير برأسنا حظ…”! او “نبقى متخلفون من دون شعوب العالم”، وغيرها من عبارات الاحباط واليأس التي كبرت معها أجيال في العراق، وكانت السبب في قتل الأمل في النفوس، ثم قتل الارواح وتسهيل الامر على الحكام الطغاة ومن يقف خلفهم من تنفيذ مشاريع التدمير والتقتيل.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here