اجترار التجارب ونزيف المستقبل

0
719

نزار حيدر
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.
لماذا يكره البعض المستقبل؟ لماذا يعشق البقاء على ما هو عليه من الحال؟ لماذا لا يفكر بالتطور والتغيّر نحو الأفضل والاحسن؟ لماذا يتمنى ان لو عادت عقارب الساعة الى الوراء فيعيش بنفس الطريقة والأدوات التي عاش فيها وبها الآباء؟ لماذا يعيش الماضي بعقليته ولا يقبل ان يتكلم معه أحدٌ عن المستقبل؟.
لماذا يتكرر التاريخ عندنا في أسوء صوره وفصوله؟ لماذا تتكرر مآسينا عند راس كل عقد من الزمن؟ لماذا نجترّ الظلم ونتذوق العلقم يوميا؟ لماذا لا نتعلم حتى من تجاربنا الخاصة التي نصنعها بأيدينا فنتراقص دائماً على جراحنا المفتوحة ونزفنا المستمر؟.
هذه الأسئلة وغيرها، يجب ان نطرق ابوابها اليوم بكل جرأة وشجاعة لأننا، في حقيقة الامر نعيش الماضي ولم ننتقل بعد الى الحاضر فضلا عن المستقبل.
ان أجسادنا حاضرة وهي تنتقل الى المستقبل لا إراديا لان الفلك يدور ويدور ولا ينتظر احدا ليستعد او يتهيأ، الا ان عقولنا واراداتنا لازالت في الماضي لم تلحق بنا ولن، ولذلك يجب على كل واحد منا ان يطرح هذه الأسئلة على نفسه بحثا عن أجوبة مقنعة ليبدأ بالعمل على تغيير واقعنا والعقلية التي تحكمنا.
وان الانتقال الى المستقبل يحتاج الى تغيير طريقة التفكير من خلال:
اولا؛ عدم التوقف عند الماضي، فالتاريخ عِبرة وهو دروس وتجارب ولكنه ليس بديلا ابدا، كما في قوله تعالى {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
ثانيا؛ استحضار إرادة الإصلاح والتغيير، من خلال قبول التحدي الذي سيفرضه التغيير، فليس هناك في العالم تغييرٌ بلا ثمن او إصلاح بالمجّان ابدا، ولهذا السبب يجب ان نتسلح بإرادة التغيير والإصلاح قبل البدء به، والى هذا المعنى تشير الاية الكريمة {إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} فالارادة الذاتية تسبق حتى توفيق الله تعالى، كما ان في قوله تعالى {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وكذلك قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} دليل واضح على هذا المعنى، فارادة التغيير الذاتي تسبق كل الإرادات الاخرى التي لا تعدو كونها عوامل مساعدة ليست الا.
ثالثا؛ توظيف كل الطاقات في عملية الانتقال الى المستقبل، لانها عملية صعبة ومعقدة، فلا ينبغي توفير أية طاقة بهذا الصدد، فمن كلٍّ طاقته ومن كلٍّ خبرته وتجربته واختصاصه.
رابعا؛ تبنّي رؤية واضحة ومحددة من اجل ان تتحقّق عملية الانتقال بشكل سليم بعيدا عن الفوضى، وان ما نراه اليوم من تخبّط في نتائج ما سمي بالربيع العربي إنما سببه انعدام الرؤية التي حالت، وللأسف، دون الانتقال الى المستقبل بشكل صحيح.
خامسا؛ الاستفادة من تجارب الشعوب الاخرى في هذا الصدد من دون ان يعني ذلك استنساخ التجارب، ابدا، لان لكل شعبٍ خصوصياته ولكل مجتمع مميّزاته، إلاّ ان الاطر العامة في عملية الانتقال للمستقبل هي واحدة لدى كل الشعوب والمجتمعات لانها تجارب إنسانية قبل ان تكون جغرافية او أثنية او ما أشبه.
ولقد كتب أمير المؤمنين (ع) في وصيته لابنه الحسن المجتبى (ع) يعلمنا كيف نقرا التاريخ، وكيف نستفيد من تجارب الامم السابقة، فكتب يقول:
أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْر نَخِيلَتَهُ، وتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ.
الكذب على النفس مصدر فشلنا
أسحار رمضانيّة (٨)
{انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
عجيب!!! هل يمكن ان يَكذِب المرء على نفسه؟ وكيف؟ ولماذا؟.
لقد سمعنا ان الانسان يكذِب على الآخرين، إما للتهرّب من التزام او الهروب من موقف محرج او ما أشبه، امّا ان يكذِب على نفسه! فكيف ذلك؟.
الآية المباركة تجيب بالاثبات، نعم. فقد يكذب المرء على نفسه، فعندما:
١/ لا يريد المرء ان يتعلم ٢/ ولا يريد ان يسمع الحقيقة ٣/ ويصغي الى الكلام الذي يُدغدغ عواطفه وليس الذي يحاكي عقله ووجدانه، ويتلقى صدى حديثه فقط ٤/ يكون شعاره اكذب ثم اكذب ثم اكذب، عندها سيكذب الانسان على نفسه.
ان اتخاذ الانسان الكذب كوسيلة من وسائل تواصله مع الآخرين، فيتحوّل الى طبيعة في شخصيته، فسيكذب على نفسه مع مرور الوقت، ولعل من ابرز آثار ذلك هو النفاق الذي يبتلي به المرء، والعياذ بالله، او ما يسمى بازدواج او انفصام الشخصية، فتراه يمثّل دورين في آن واحد، وصدق الله تعالى الذي تحدث عن ذلك فقال {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
فاستمراء الكذب وتعوّده واستساغته حتى يصل الى حد الكذب على النفس، وخَلْفُ الوعد وعدم الالتزام باي عهد، يعقبه النفاق لا محالة.
فمتى يكذب المرء على نفسه؟.
اولا: عندما يعرف الحق وتاخذه العزة بالإثم، فيرفض الانصياع له والتسليم به، ويظل يعاند ويجادل ليتهرب من الحق، ولعل في قصة نبينا ابراهيم (ع) مع قومه خير دليل واضح على ذلك، يقول تعالى، بعد ان يسرد تفاصيل تحطيم ابراهيم (ع) للأصنام {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ* قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ* فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} ومع ذلك، ومع انهم عرفوا الحق، إلاّ ان جوابهم كان، كما يخبرنا القران الكريم {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.
انّه العناد والتزمّت والكذب على النفس، وهو حالنا اليوم، فعلى الرغم من اننا نعرف جيدا علّة تخلّفنا وأسباب مشاكلنا ومصدر فشلنا، ومع كل ذلك نكذب على انفسنا ونسعى بكل الطرق للهرب من الاستحقاقات التي يفرضها علينا الاعتراف، فترانا نلوم العالم الا انفسنا، ونحمّل العالم السبب الا انفسنا، ونرمي بالمسؤولية على كل العالم لنبرّئ انفسنا، وهذا هو الكذب على النفس بعينه.
انه صراع العقل والعاطفة، فإذا غلبت الثانية الاول لجأ الانسان للكذب على نفسه لتسليتها.
ثانيا؛ كذلك، يكذب المرء على نفسه عندما يٓعِدُ وهو يعرف في قرارة نفسه انه أعجز من ان يفي بوعده، ولذلك قال أمير المؤمنين (ع) في ذلك {الْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ، فَرُبَّ كَلِمَة سَلَبَتْ نِعْمَةً وَجَلَبَتْ نِقْمَةً} وقوله (ع) {الْمَسْؤُولُ حُرُّ حَتَّى يَعِدَ}.
للاسف الشديد فان نكث الوعد في مجتمعاتنا صار من أحقر الذنوب الاجتماعية، فالأب يعد ابنه ولا يفي، والام تعد ابنتها ولا تفي، والمرشح يعد الناخب ولا يفي، والكل يعد الكل ولا احد يفي، انّه كذب متبادل، يكذب بعضنا على البعض الاخر، وقبل ذلك نكذِب كلنا على انفسنا، حتى أصبحنا اليوم المصداق الحقيقي للآية الكريمة.
والغريب في الامر، اننا نعِد ونعرف بأننا سوف لن نفي، فنشفع وعدنا بالعبارة (ان شاء الله) او (الله كريم) فعندما لا نفي، ونحن نعرف مسبقا اننا سوف لن نفي، يكون جوابنا (ان الله تعالى لم يشأ)!!! انه النفاق والكذب على النفس، أليس كذلك؟!.
ثالثا؛ واخيرا، عندما يتكلم المرء ويعظ ويخطب ويحدّث الناس، وهو يعرف في قرارة نفسه انه يناقض، في أفعاله وأعماله، ما يتحدّث عنه، فهو في هذه الحالة يكذب على نفسه قبل ان يكذب على الآخرين، ولقد قال الله تعالى متحدثا عن ذلك بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.
كما حذر أمير المؤمنين (ع) من هذه العادة بقوله (ع) {مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالاْجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ}.
الا ليتهم يٓعِظون انفسهم بدلا من ان يعظوا الآخرين.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here