استقبال شهر رمضان رمضان مدرسة ذات فلسفة ورسالة

0
1695

الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي

شهر رمضان، مدرسة الروح والفكر والضمير. ودورة تكميلية للنواقص البشرية. وحملة تطهيريّة، لتصفية الرواسب التي تتكلس في قرارات الإنسان. خلال أحد عشر شهراً.
وبعد ذلك فشهر رمضان فترة الحضانة والتفكير.
ولنشرح النقطة الرابعة ـ الآن ـ عسى أنْ تفصّل الثلاثة الأوليات أثناء البحث.
فالإنسان الذي يعيش الاجتماع سنة كاملة، يقتحم في غضونها كل جوٍ، ويباشر كل تفكير، ويمارس كل تجربة ومعركة ومحيط، تترسب على عقله وقلبه وعواطفه، أكوام باهضة من (الغبار الاجتماعي) الذي يثور في كل جو، نتيجة الصراع الاجتماعي الدائب في كل مكان، يعيشه أكثر من إنسان ويتحرك فيه أكثر من نشاط.
وليس من المضمون، أنْ يكون الإنسان أثيراً في كل جو وبيئة ومحيط، ومع كل نشاط وإنسان بحيث يعطي ويطوّر، ولا يأخذ ولا يتطوّر، بل الإنسان مهما صلب ونشط، يتأثر كما يؤثر، كلمات هنالك: إنّ العباقرة يؤثرون أكثر مما يتأثرون، والبسطاء يتأثرون أكثر مما يؤثّرون، وأمّا البوتقة الاجتماعية، فلا تبرد عن مزج الشخصيات المنصهرة فيها، وتفريغ النتاج المزدوج في نفوس المستلهمين من ذلك: (الجو الاجتماعي) المتألف من مجموع الشخصيات المتفاعلة فيه… فكل من يتغذى من ذلك الاجتماع، يتغذى من جميع الشخصيات التي عاشوا مترابطين منذ الأزل، فكان منهم ذلك الاجتماع، وكل تفكير صورة جماعية لملايين الأفكار، وكل شخصية نتاج ازدواج ملايين الشخصيات… ومن هنا ينشأ تطور الفكر البشري، الذي يوحي بتطور بقية مظاهر الحياة.
ومتى كان (التفاعل الاجتماعي) دائباً لا يفلُّ عن إنجاز هدف الطبيعة من الاجتماع، كان الفرد الذي يتكون تحت رعايته، ويدرج في أحضانه، مصباً قهرياً لكافة تياراته، ومعرضاً أكيداً للانحراف الطائش، مع اتجاهاته الكثيرة المتشابكة، من حيث يشعر ويريد، أم يكره ولا يشعر.
وإذا صحت هذه الحقيقة ـ هي صحيحة ـ واستسلم الفرد للتجاوب مع الاجتماع، والانصياع لإرادته وميوله، كان منقاداً للمجهولات المتحكمة في ذلك الاجتماع، وكان جديراً بأن يتكسر ويتهدم، ويترسب على عقله وقلبه وعواطفه، ما يعوّذ منه اليوم، ويغدو من العبر القائمة، التي كان يستجير منها بالأمس، ويكون ريشة على متن الإعصار، لا يعلم لماذا، ومتى، وأين يهوى به في القرار.
فلا بد لمن يعايش الاجتماع، من (عاصم واع) يسلس له حتى يتجاوب ويتفاعل مع الاجتماع، فينمو ويتطوّر، إلى حيث يحسن الانطلاق مع إرادة الاجتماع، والاندماج في مواكبه، والانضواء تحت راياته… ويكفكفه من الاندفاع الطائش مع الإرادات الأجنبية، التي تسلل إلى الاجتماع لتسخيره وتسييره في الاتجاهات المتطرفة، التي تبدأ من عقر بلادنا، وتنتهي بدر خيراتنا في لهوات المستغلين والانتهازيين…
وهكذا، كان لا بد لكل إنسان يعيش الاجتماع، من (مصقل) يتقن كشف واقع الحوادث، وتحديد موقف الفرد منها، كي لا تنتهي بخسارته.
وكذلك المجتمع، الذي يكون (وحدة) في المجموعة البشرية، المؤلفة من مجتمعات عديدة، يبقى عرضة دائمة، لشتى الانحرافات، ونهزة لأقوى المجتمعات المتفاعلة في المجموعة البشرية، وكتلة يترسب عليها الغبار العالمي.
فالمجتمع الحي الواعي، ليس هو الذي يبقى مغلفاً معصب العيون، حتى يغدو وكراً للعناكب، ونفقاً مظلماً للراقدين… ولا ذلك المائع السافر الذي لا يعرف الأسوار والحصون، ولا يعترف بالطهارة والصدق، بل يفتح أحضانه لكل وافد منبوذ، ويرحب بكل عابر ممسوخ… وإنّما ذلك المجتمع، الذي يفتح نوافذه على الشرق والغرب، لتختلف فيه الأنسام، وتعكس فيه الإشعاعات، وتفاض عليه الاتجاهات والآراء والميول، من قواعد الإرسال، فيدرس ويجرب كل واحد، فيغلق النافذة التي تتسلل منها الأوبئات باسم الثقافات، ويوّسع النوافذ التي تهمي الثقافات النافعة، فيعيش الموئل الخصب المأمون، الذي تتصافح فيه الحضارات والمدنيات، فتتفاعل وتزدهر، ولكن لا يهمل واقعه بلا ضمان، حتى يصبح مصباً للمستنقعات العفنة، ومرتعاً للزوائد الشاذة، وأرضاً للمعارك الأجنبية، التي تدور على حسابها، ويقتطف نتاجها الآخرون.
فالاجتماع، الذي يريد أنْ يشعر بوجوده العضوي، في الأسرة الدولية والعالمية، ويحب أنْ يمثل البشرية العادلة، التي ليست بالمتأخرة ولا بالمتطرفة، عليه أن يرتبط بـ (معقل) حصيف، يحصنه من الجمود والانجراف.
وفي شهر رمضان، يقوم بجزء من دور (المعقل العاصم) وتتجسد رسالته في إسباغ الحصانة على الفرد والمجتمع.
فهو فترة التأمل والتفكير، ومحاسبة النفس، وعرض الواقع الذي يعيشه الفرد والمجتمع، على ذلك (المعقل) المعصوم، الذي لا يزل ولا يخطأ، وذلك (الضمان) الفردي والاجتماعي، الذي يحصن مرابطه من التأخر والتطرف، ويكفل له الهداية والرشاد، إلى سواء الحقِّ والصراط المستقيم، وهو (القرآن الحكيم).
فالإسلام قرر شهر رمضان، حتى يكون شهر التبتل والانقطاع، الذي يسلخ الفرد ـ والمجتمع المتكوّن من الأفراد ـ من التوغل في الحياة المادية الرتيبة، ليفرغه للتمسك بذلك (المعقل الحريز).
ألا ترى الإسلام، كيف دفع النّاس دفعاً إلى تلاوة القرآن الكريم، في هذا الشهر العظيم، حيث جعل ثواب قراءة كل آية منه في هذه الفترة، بمنزلة قراءة سبعين آية أو تلاوة القرآن كله، فيما سواه من الشهور؟
ألا ترى الإسلام، كيف يحبذ الإكثار من الأدعية المأثورة، التي تفصل أهداف القرآن، وخصص بكل وقت من أوقات هذا الشهر أدعية تسد جميع الوقت، وتبلغ بالداعي أقصى درجات الوعي والصفاء؟
ألا ترى الإسلام، كيف حتم بصرامة بالغة، صيام هذا الشهر كله، لتتميم رسالة رمضان، بتفريغ المعدة وكبح الشهوات، اللذين يعملان على كشف الرواسب، وصقل الأذهان، لتتأهب للتلقي والتجاوب والقبول؟.
ألا ترى الإسلام، كيف يحفّز على مواصلة (الاعتكاف) في هذا الشهر، لينقل الصائم حتى من أجواء الحياة الصاخبة المزدحمة، إلى جو عبادي هادئ، كيما يبتعد عن واقعه المألوف، فيتفرغ لضميره وقرآنه وأدعيته، ليعرض عليها نفسه وحياته السابقة بكل هدوء وأناة، ثم يقول هو كلمة ضميره وقرآنه وأدعيته في نفسه؟…
ألا ترى الإسلام، كيف يشجع على التأمل والتفكير، حتى يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين عاماً)؟.
ألا ترى الإسلام، كيف يُلفت النّاس إلى فحص واقعهم، وتجديد النظر في أنفسهم، ويحذّرهم من مغبة الانطلاق الأهوج وركوب الأهواء، فيقول على لسان نبيه الكريم: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا) فإنّ عثرة المسترسل لا تقال؟.
ألا ترى الإسلام، كيف يحرص على سهر ليالي رمضان، وإحيائها بالذكر والتلاوة والصلاة، ويعوض النوم فيها بـ (نوم القيلولة) قبل الظهر، حيث علم أنَّ جو الأسحار وهدوئها الملهم، يبعث على صفاء الأفكار ونبوغ العبقريات؟
ألا ترى الإسلام، كيف يدعو ـ في هذا الشهر ـ إلى حسن الخلق والعفو والإحسان، والتواصل والتحابب، وجعل ثواب كل معروف مضاعفاً، ليذيب السخائم الداخلة، التي تغلي وتجيش، فيشغل الفكر بواقعها الثائر، عن مهادنة الصائم، للانصراف إلى محاسبة حياته الماضية، والاستلهام والتصميم للمستقبل؟.
ألا ترى بقية آداب وتعاليم رمضان، كيف تتضافر على تجريد الإنسان من الشواغل الماديّة كلها، وتفريغه لواقعه وضميره وقرآنه، يعرض واقعه على قرآنه، ويترك ضميره يحكم له أو عليه، في أمان ممن يدس أنفه في المحكمة بلا استحقاق، ليؤنب هو نفسه على ما فرطت، ويصمم لإلزامها الصواب حتى لا تخبط من بعد؟.
فرمضان بمؤهلاته وآدابه (فترة المحاسبة والحصانة) التي لا يحصل الاعتدال والنبوغ إلاّ فيها، ولا يقدران إلا بقدرهما… واعترافاً بهذا الواقع، نجد النوابغ، والعظماء يقدرون في برامج حياتهم، ما يسنح لهم من فترات شاغرة للمحاسبة والتفكير، ولا تتأزم المواقف إلا ويوفرون على تلك الفترات قطاعات أخرى من الوقت، لتعينهم على اقتحام الأزمات بنضوج، وعندما يبرزون إلى الحياة، نجد حصانتهم بمقدار سعة تلك الفترات.
ونظراً إلى هذا الواقع، يعتبر الإسلام شهر رمضان، أقل فترة يجب أن لا ينقص منها أي إنسان، وحتى إذا ما نقصت تحت إلحاح الضرورة، أو الطوارئ التي تلجأ إلى الأسفار، كان على الإنسان أنْ يعوضه فيما يلي بمقداره، أما ما أنقص منها بلا مبرر، فعليه التعويض والكفارة والعذاب، ولكن يستحب لمن يستطيع الزيادة أن يزيد، فليس ذلك إلا توفيراً على الكمال الإنساني. فيستحب الصوم ثلاثة أيام في كل شهر أوله ووسطه وآخره، وأيام الجمع، والأيام البيض، وشهور رجب وشعبان ورمضان، وأيام أخرى لمناسبات أخرى، ثم من زاد فله الأجر…
ذلك جزء من فلسفة رمضان، وهذه فلسفة رفيعة لا يحققها في واقعها غير النوابغ والعظماء، ولكن الإسلام بنظراته الشاملة، التي تنكر الاستئثار، واستغلال فئة خيرات الدنيا، وإنْ كانت هي العبقريات، فلا يحب الإسلام تخصيص السيادة بأفراد دون آخرين، وإنّما يرى أنَّ كلَّ تطلّع إلى الحياة، يستحق من الحفاوة والرعاية، بمقدار ما يستحقه أعظم الفلاسفة النابهين، حتى تكون المسؤولية عليه إنْ هو توانى عن استخدام صلاحياته ومؤهلاته… وأنَّ كل فرد في حياته العائلية وعمله وأهدافه. يحتاج إلى الرعاية والنبوغ، بمقدار ما يحتاجه الملك في تنظيم حكومته، فلابد من تعميم التعاليم التربوية، وتوسيعها من القاعدة حتى القمة، ليتكون كل فردٍ في حياته الخاصة والمشتركة غنياً يحمل في تفكيره النبوغ والنضوج، ويعرف مصادر الحياة وأهداف الكون… ويعني ذلك خلق مجتمع متساوي القوائم والأضلاع، وتعميم نظريات اجتماعية بالغة الأهمية.
وإذا صح أنْ في الشهور شخصيات.. فإن شهر رمضان، شهر ذو شخصية لامعة، له مميز خاص، وطابع معين، لأنّه شهر يؤثر في حياتنا ويحوّرها، ومن هنا كانت شخصيته، التي ينفرد بها، لا يدانيه فيها أي شهر، حتى شهر الحج، لا ينافسه شخصيته، لأنّ الحج أيام معدودات، لا يشعر بها إلاّ من يعيش في البلاد المقدسة، أو يفد إليها، أما شهر رمضان، فيملي أحكامه من أول يوم فهي إلى آخر يوم، ثم لا يترك النّاس إلاّ وهم على أبواب عيد، وهو يعيش ويمنح جوه الخاص للمسلمين، عموماً في مشارق الأرض ومغاربها، لا كذي الحجّة، الذي لا يشعر بالحج، غير الواقفين في عرفة، أو الماكثين بمنى.
فهو انتفاضة روحية عامة، وتوحيد للشعور المادي بين المسلمين، وتأهيب سنوي لكافة الفئات والعناصر، والمتناقصة حول كثير من المسائل والحقائق.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here