الاعلام الحسيني يستجلي عبر التاريخ الحقائق المضبّبة

0
1433

من الأمور التي ظلت عالقة في الذهن من أيام الدراسة في العراق، الرحلات المدرسية التي كانت تقام للطلبة كل عام، وحيث العاصمة بغداد هي قلب العراق فإن الرحلات المدرسية التي كانت تنطلق من كربلاء المقدسة تحط فيها، لكن الوجهة تتغير في كل عام، فمرة الى قضاء المدائن لرؤية طاق كسرى وزيارة مرقد الصحابي سلمان الفارسي المحمدي، ومرة الى مدينة الألعاب، وثالثة الى حديقة الزوراء، ورابعة الى احدى دور السينما، وخامسة الى المتحف الوطني، وسادسة الى المتحف البغدادي، وهكذا، ويبقى القاسم المشترك في معظم هذه الرحلات هو المتحف البغدادي، الشبيه بمتحف الشمع في لندن (مدام توسّودس)، فهو متحف يقع وسط بغداد قرب المدرسة المستنصرية على ضفاف نهر دجلة، مشاهدته تسر الناظرين، حيث يعكس الحياة اليومية للمجتمع البغدادي بطريقة الفولكلور الشعبي، تم افتتاحه رسميا عام 1970م، ثم تعرض للإغلاق بعد عام 2003م وأُعيد مرة أخرى عام 2008م ولازال.

وبعد 35 عاماً على آخر زيارة لهذا المتحف العريق، صممت خلال زيارتي للعراق في نيسان 2014م على تنشيط الذاكرة المدرسية ولأمتع ناظري بالحياة اليومية للعائلة البغدادية، ولكن هذه المرة مع رفيقة العمر وشريكة المد والجزر في الحياة اليومية وليس مع رفاق رحلة الدراسة. لقد بدا رجال المتحف ونساؤه وأطفاله وكل تماثيله المشخصنة التي تربو على الأربعمائة تمثال موزعة في نحو 80 مشهداً، على ما هم عليه حيث مدرسة الكتّاب، وغرفة العرس، وحمام السوق، والمقهى، وزفّة العرس، وعندما اقتربت من صالة الهدايا والصور في الطابق العلوي، حيث تقف مسؤولة الجناح السيد علياء جاسم فاضل، تناهى الى سمعي صوت النائحة وهي تنعى القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، الذي استشهد في كربلاء المقدسة عام 61هـ وهو في يوم عرسه كما تقول الرواية التراثية، كل الأصوات الصادرة من الغرف التي زرتها كانت معروفة الى سمعي إلا صوت الناعية القادم من الغرفة المجاورة لصالة الهدايا، دخلت الغرفة حيث مجموعة من التماثيل لنساء جلسن يعزين السيدة سكينة بنت الحسين (الزوجة المفترضة للقاسم تراثيا) والملاية الناعية تستدر دموعهن بلحنها الشجي على فقد حلو الشباب الذي لم يكتحل ناظراه برفيقة العمر. أثار المشهد فضولي فعدت الى بنت مدينة الكاظمية السيدة علياء أسألها عن تاريخ استحداث صالة عزاء سكينة في عروسها القاسم، فأخبرتنا أن الصالة تم افتتاحها لأول مرة في شهر محرم للعام الجاري 1435هـ (تشرين الثاني نوفمبر 2013م) من قبل الأمانة العام لمحافظة بغداد المشرف المباشر على المتحف البغدادي.

لم يمر افتتاح صالة المأتم الحسيني دون ضجيح من البعض الذي وجده خارج إطار التراث البغدادي، ولكن الأنظمة التي تعاقبت على العراق حاولت تغييب الوعي البغدادي عما هو قائم بين ظهرانيهم وبالقرب منهم من إقامة الشعائر الحسينية منذ القرون الأولى وحتى اليوم.

وكتاب (الإعلام الحسيني عبر التاريخ .. الخطابة مثالاُ) من إعداد الأديب العراقي الأستاذ مهدي هلال عبد الطفيلي الصادر حديثا (2014م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 120 صفحة من القطع المتوسط، هو الذي أرجع الذاكرة الى المتحف البغدادي، فهو يتحدث عن النهضة الحسينية وإعلامها ودور الخطيب الحسيني والناعي والمداح والرادود والنائحة (الملاية) في المسيرة الإعلامية الحسينية، والكتاب في واقعه دراسة موضوعية من وحي الجزء الأول من كتاب “معجم خطباء المنبر الحسيني” للمحقق آية الله الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في طبعته الأولى عام 1999م عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 540 صفحة من القطع الوزيري.

سلاح ذو حدّين
لا يمكن إدراك قيمة الشيء إلاّ من خلال الممارسة والاحتكاك العملي، وتحسس الآثار، والذي يشتغل في مجال الصحافة والإعلام، يدرك قبل غيره أهمية هذه المهنة وخطورتها، فهي سيف ذو حدين، لها قدرة جلب المنفعة ودفع المضرة، والعكس أيضا، فقد تملك الأمة السلاح والارادة ولكنها ضعيفة في مجال الاعلام يستحوذ عليها الآخر بإعلامه الذي يدخل حريم العقول والأفكار عبر وسائل مختلفة أصبحت في عالم اليوم متوفرة لدى الفئات العمرية صغيرها وكبيرها، تغزو العقول قبل الغيطان والحقول، ولقد أصاب الناشر في كلمته كبد الحقيقة عندما وجد أن: (الاستناج الطردي المنطقي إن الذي يملك إعلاماً قوياً هو الذي يملك قوة تأثير أكبر في نفس المشاهد أو القارئ أو المستمع، من الذي يملك إعلاماً ضعيفاً أو، لا حضور فاعل له)، ولا يكفي أن يكون المرء على الحق إن لم يستخدم وسائل الإعلام كافة وبالطرق السليمة والنظيفة لدعم منهجه ومنطقه.

وكتاب (الإعلام الحسيني عبر التاريخ) يكشف عن هذه الحقيقة، من خلال بيان مراحل تطور الإعلام بشكل عام والإعلام الحسيني بشكل خاص، وتناول الخطابة كنموذج بارز في هذا الميدان الذي استطاع أن يلهب الأفئدة والألباب، قبل واقعة الطف في كربلاء المقدسة عام 61هـ وبعدها وحتى يومنا هذا، حتى صار المنبر الحسيني هو المظهر الأبرز لتعريف الأمة بحقيقة النهضة الحسينية، وقد عمد الأديب هلال الطفيلي الى قراءة أفكار ورؤى المحقق الكرباسي فيما يتعلق بالخطابة الحسينية من خلال انتخاب عدد من فصول كتاب “معجم خطباء المنبر الحسيني”، الذي يتناول المؤلف في جزئه الأول تفاصيل دقيقة عن الخطابة منذ دبيب البشرية على البسيطة وحتى يومنا هذا.

ولا يخفى أن مراكز الدراسات الاعلامية تُميّز بين ثلاثة مفاهيم ترد في أدبيات الصحافة بأنواعها المقرؤة والمسموعة والمرئية والرقيمة، هي الإعلام والإعلان والدعاية، فالإعلام من حيث اللغة هو الإخبار، ومن حيث المصطلح هو: فن صياغة الحدث بما يجعل المتلقي يتفاعل معه سلباً أو إيجاباً. وهنا تقع أهمية الصياغة على الذي يقوم بمهمة الإخبار، فكلما كان الخبر محبوكا كان أقرب الى عقل المتلقي وضميره يؤثر فيه ويستحوذ عليه ويبلغ به منتهى المراد، وهنا يلتقي مآل الإعلام مع الإعلان الذي مفاده عرض الشيء وإغواء المتلقي للوقوع في حباله وشباكه، وإذا التقى الإعلام مع الإعلان في الحدث الواحد تحققت الدعاية التي هي في أصلها الإغواء والإيقاع، وهنا تكمن الخطورة وجسامة المسؤولية الإعلامية، وذلك عندما يتم الإمساك بخيوط ثلاثي الإعلام والإعلان والدعاية في آن واحد وبقبضة حديدية، وعندئذ أمكن قيادة المجتمع بما يريده اللاعب الحقيقي، فإن كان مع الحق وممثلا عنه قاد الرعية الى جادة الصواب، وإذا كان ناطقاً عن الباطل وممثلا له أركسها في الهاوية من حيث تدري أو لا تدري.
ولخطورة الأمر في بناء رأي عام، فإن الكل من أفراد ومجموعات ومجتمعات وحكومات يسعى عبر الاعلام إلى خلق الحصانة لنفسها وتحصين من هو تحت حمايتها، حتى تستطيع أن تحارب به الآخر الضد. فالذي يملك الحق والحقيقة يسعى الى مواجهة الآخر بالدليل حتى يثنيه عن غيّه ويقدر على مجابهته في المحافل العامة والخاصة، والذي يفتقد لهما يسعى الى ضرب الآخر تحت الحزام عبر بث الأكاذيب وإلباس الدعاية الكاذبة لبوس الإعلام الصادق حتى يطيح بمعنويات المجتمع ويتمكن منه.

وما حصل في كربلاء عام 61هـ واستشهاد الإمام الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه في معركة عسكرية غير متكافئة عدة وعدداً، كان الإعلام الكاذب أهم دعامة متقدمة في نشر الهلع بين أهل العراق، حيث غزا الخوف صدورهم لهول الماكنة العسكرية الأموية عبر لسان الماكنة الإعلامية الذي جعلهم أسرى ولمّا تقرع الحرب أجراسها.

أداة العقلاء
في المقابل سعت مدرسة أهل البيت(ع) بعد واقعة الطف الأليمة إلى تحصين النفسية المؤمنة عبر الحشد الإعلامي المنبثق من النهضة الحسينية، فكانت عاشوراء ولازالت فرصة طيبة لزرع بذور التحدي ورفض الظلم ومواجهة الانبطاح الداخلي للسلطان الظالم وتعزيز ساتر الإرادة لصد العدوان الخارجي، وهو ما يحاول الكرباسي تبيانه عبر المقدمة المستفيضة من معجم خطباء المنبر الحسيني ويستدل عليه الطفيلي من خلال تعليقاته.

ولأن إشهار السيف وإراقة الدم، أمر تنفر منه النفس الإنسانية، فإن القوة الحقيقية ليست في السيف وإنما في قوة الإقناع واستمالة قلب القريب والبعيد، وهي ما قامت عليه رسالات السماء ودعوات المصلحين، وما يجب أن تكون عليه خطوات الأتباع الذين خاطبهم القرآن (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن) سورة النحل: 125، من هنا كما يقول الطفيلي في المقدمة: (يتطلب الأمر منا كمسلمين وموالين لأهل البيت(ع) النهوض بشكل علمي وموضوعي والنزول إلى الساحة بشكل سلمي ومنطقي لمواجهة المد المزيّف والرياح الصفراء ومقارعة الفكر الضال)، وهذا الدور يؤديه خطباء المنبر الحسيني بوصفهم جنود الحق يقفون في مقدمة الإعلام الحسيني يريدون بخطاباتهم هداية الناس الى سواء السبيل ومنعهم من الوقوع في الخطأ والزلل وعدم تكرار صفحة الذل والخنوع والقبول بالسلطة الظالمة التي تتخذ من الدين مركباً لاستعباد العباد الذين خلقهم الله أحراراً.

فالخطابة بشكل عام، أهم وسيلة عرفتها البشرية على طول التاريخ، ولا يمكن الاستغناء عنها حتى مع تطور وسائل الاتصال والإعلام، لأنها أداة اقناع وعرض منطقي، وهي وسيلة السماء، وعند الطفيلي هي الإعلام التبليغي الذي: (يعد وسيلة من وسائل السماء لتوجيه وإصلاح وهداية المجتمع البشري.. فمن مهام الأنبياء التوجيه والإرشاد والترغيب والتحذير والإنذار، وهذه الأمور تعد في وقتنا الحاضر وسائل إعلام حضارية. وقد وجّه الله تعالى أنبياءه بتلك الوسائل لإقناع الناس ولنشر قيم ومبادئ وقوانين السماء)، فالخطيب الرسالي أو “الخطيب المثالي” كما يصفه الكرباسي عند بيان أصناف الخطباء هو في حقيقته يتبوأ في الحياة الدنيا مقعد الأنبياء والأئمة والأوصياء والأولياء في دعوة الناس الى الخير، وهذا الخطيب كما يؤكد الكرباسي: (لا ينظر إلاّ من منظار المسؤولية ولا تأخذه في الله لومة لائم)، وهذه المرتبة من الخطباء هي أعلاها وتختلف كلياً عن الصنف الثاني وهو “الخطيب المأجور” الذي: (يتسكع على أبواب السلاطين ويتملق الأمراء ويلهج بما يرضي أميره ولو بسخط ربه، وهو من الخطباء المعبر عنهم بوعاظ السلاطين)، كما يقف الخطيب الرسالي على مسافة بعيدة من “الخطيب المرائي” الذي يتصيد بالخطابة غربان السمعة والرياء، كما أن الخطيب الرسالي هو غير “الخطيب المهني” الذي: (اتخذ الخطابة مهنة وحرفة يسترزق منها شأنها شأن سائر الأعمال التجارية)، كما ان الخطيب المثالي هو غير “الخطيب التبركي” الذي يبحث في خطابته عن الأجر والثواب، وصعود أعواد المنبر من أجل البركة كهدف أعلى بغض النظر عن هدفية أصل الخطابة كرسالة.

ويتعقب الأديب الطفيلي مراحل تطور الخطابة الحسينية في سبعة منعطفات تاريخية كما ثبّتها العلامة الكرباسي في معجم الخطباء، فالمرحلة الأولى بدأت مع استشهاد الإمام الحسين(ع) في 10 محرم عام 61هـ وانتهت بالغيبة الكبرى للإمام المهدي المنتظر في 15 شعبان عام 329هـ، والمرحلة الثانية تبدأ من نهاية المرحلة الأولى حتى نهاية القرن السادس الهجري، وتبدأ المرحلة الثالثة من أوائل القرن السابع الهجري حتى أواخر القرن التاسع الهجري، وتنطلق المرحلة الرابعة من حيث انتهت الثالثة حتى منتصف القرن الثالث عشر الهجري، فيما تشرع المرحلة الخامسة من هذه الفترة حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، ويستأثر العلامة الكرباسي بالمرحلة السابعة كمرحلة مستقبلية لبناء منبر متين يخاطب البشرية بمراتب عقولها واختلاف ألسنتها وتشابك أهوائها.

ولعل أهم ما تتصف به المرحلة السابعة والمستقبلية من مراحل تطور الخطابة الحسينية كما يمد إليها الكرباسي بصره ويتمناها هو: عنصر التخصص، وعنصر الإقناع العلمي، وعنصر التطبيق العملي، وعنصر اللغة، وعنصر الوسائل الحديثة.

من هنا فإن اجترار الوسائل القديمة والمستهلكة في المنبر الحسيني يبعد الجيل الجديد عنها، المتحدث بلغات وثقافات متنوعة، ولذلك ينبغي للخطيب وهو في مقام الأنبياء من حيث أداء الرسالة ومعالجته لأمراض المجتمع، أن يقف على آخر المستجدات والمستحدثات العلمية الملاصقة لحياة الإنسان اليومية يستفيد منها ويستخدمها لايصال الكلمة الحقة، فالطبيب الناجح هو الذي يجدد قراءاته الطبية والتطبيقات العملية، والخطيب الناجح هو الذي يجدد قراءاته ويشنّف أسماع المتلقي كل عام بالجديد من الأدب المنثور والمنظوم ويتابع ما يدور حوله في العالم.

والمفيد ذكره أن كتاب “الإعلام الحسيني عبر التاريخ .. الخطابة مثالاً” يُعدّ الثاني بعد كتاب “الخطابة في دراسة نوعية شاملة لآية الله الكرباسي” من إعداد القاضي البحريني الشيخ حميد المبارك الصادر عام 2005م عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 256 صفحة من القطع المتوسط، يتابع كل منهما وبأسلوبه الخاص المقدمة المستفيضة التي كتبها المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي لمعجم خطباء المنبر الحسيني، وهي في 200 صفحة من القطع الوزيري دخلت حتى في جزئيات لباس الخطيب وزيه ومظهره الخارجي، ولأهميتها فقد اعتمدتها بعض المعاهد والجامعات الخطابية كمصدر تدريس ومرجع لطلبتها.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here